لطالما وصفت غزة بأنها سجن كبير، خضعت لسنوات طويلة تحت حصار الاحتلال الإسرائيلي، لكنها وبعد الحرب المجنونة عليها التي اندلعت في السابع من أكتوبر 2023، تحولت إلى مقبرة للشهداء وسجن للأحياء. الموت فيها بلا حساب، قتل وتجويع وتعطيش وأمراض هذه هي المعادلة التي تحكم غزة اليوم. أما الأحياء فهم يخضعون لحصار شديد وضمن مجموعات كبيرة في جزر محدودة داخل القطاع تحركهم أوامر عسكرية من مكان إلى مكان، يتهددهم الموت من نيران الاحتلال الإسرائيلي، أو الجوع أو العطش، أو المرض أو تقلبات الطقس من البرد والحر.
تركت الحرب أثرها على الحياة والمجتمع الفلسطيني، فقد الآباء والأمهات أبوتهم وأمومتهم من هول المشهد، وفقد الأطفال طفولتهم ولم يعد يلفت انتباههم اللعب في الكرة، أو أيًا من تلك الألعاب التي كانوا يمارسونها قبل الحرب والنزوح والموت، لم يعد يهمهم تسلق الأشجار وقطف الثمار إلا إذا فقدوا مصادر غذائهم وطعامهم ليسدوا رمقهم إن وجد أي من الثمار عليها. فقد الكثير والكثير مما كان الكل يعمل عليه. لقد حل مكانها كل هذا الدمار والموت وسقطت الحياة في ردهات الزمن. غزة اليوم المقابر فيها تتناثر في كل مكان، في الأحياء، والممرات، وتحت الأنقاض، وفي الحقول يصح أن نقول إن رائحة الموت تتناثر في كل مكان، بمعنى أن غزة لم تعد مكانًا قابلاً للحياة، المكان هو المكان، ولكن كل شيء تغير. لقد تحولت غزة من عروس البحر المتوسط إلى كومة من الردم والرمال.
وفي خضم الحرب التي تشنها إسرائيل على المدنيين العزل في غزة وتمخر دباباتها وآلياتها عباب كثبان الرمل فيها أقدمت إسرائيل وفق مصادر أممية على تحديد المساحة التي يتحرك فيها السكان وتقليصها إلى حدود %35 من مساحة القطاع البالغة 350 كم. جزر رملية وممرات تدعي أنها آمنة. عدد السكان الذين يقبعون في تلك المنطقة يزيد عن 2.1 مليون فلسطيني.
تأثير القرار العسكري الإسرائيلي على الحياة العامة للغزيين كبير جدًا، بحيث أصبح من المعذر الحركة والوصول إلى حوالي %65 من مساحة قطاع غزة. مما منع المزارعين وما تبقى من عمالة تحديدًا في قطاع الزراعة من الوصول إلى أراضيهم. ولا يقتصر تأثير هذا القرار العسكري على المزارعين، بل يتعدى ذلك على الحياة الاجتماعية التي تحد من حركة المواطنيين ولقاء العائلات مع بعضهم البعض، مما يهدد تجمعهم ويشتتهم مرة أخرى.
وسط مشهد الحرب بتفاصيله والنزوح ومشاريع التهجير والتوطين بعيدًا عن الوطن، وجرائم التجويع والتعطيش وفقدان العلاج والموت الزؤام الذي يتخطفهم في كل دقيقة وغياب الحلول، وصمت الصامتين، فإن الحياة تضيق بأهل غزة، وبمستقبلهم، لتصبح شبه مستحيلة من شعب أصبح لا ينتظر إلا الموت المحقق، لولا فسحة الأمل التي تجعلهم يرددون إننا عائدون.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها