قبل أيام كنت قد قرأت قصة أرسلها لي شقيقي غسان وهو المغرم بالرواية والأدب الإنساني، كان قد كتبها فيودور دوستويفسكي عام 1949 على جدار زنزانته وهو محكوم بالإعدام في زمن روسيا القيصرية قبل الثورة هنالك، قصة قصيرة أظهرت عبقرية الفكر الإنساني لهذا الروائي العظيم. من خلال الحوار بين الشيطان والكاهن. كشف دوستويفسكي في قصته كيف أن "الجحيم" ليس مجرد تهديد في الآخرة، بل واقع يعيشه الفقراء والمضطهدون يومياً على الأرض والمعذبون فيها. هذه القصة تحمل إسقاطات عميقة على واقع  شعوبنا اليوم، خاصة على واقعنا الفلسطيني، حيث تعيش شعوب المنطقة أشكالاً مختلفة من "الجحيم الأرضي".

في مشرقنا العربي الذي أسموه بالشرق الأوسط حتى يتسنى لهم اعتبار المستوطنة الاستعمارية الإسرائيلية جزء منه، يعاني الملايين من الفقر والجوع، أشكال القمع، التمييز والحروب التي تفرضها أنظمة مستبدة ومصالح حكامها التي تعزز سلطة الرجل الواحد والتي لا تريد أن تمتلك الإرادة السياسية وحتى الأخلاقية في مواجهة الاحتلال الاستعماري الذي يتمدد اليوم في مشرقنا العربي بمساندة سياسات دولية غير عادلة لتنفيذ ما أسموه بالشرق الأوسط الجديد.
تماماً كما أشار دوستويفسكي إلى العمال المقهورين والفلاحين الذين يعانون من الظلم والقهر اليومي، فإننا نجد في منطقتنا شعوباً تعيش تحت وطأة أنظمة تستغل الدين أو الشعارات القومية لتبرير قهرها.

المجتمع الدولي بغربِه الاستعماري، على غرار المراقب الذي يحمل السوط في القصة، يدعم هذه الأنظمة أو يشارك في تكريس الظلم عبر ديكتاتوريات مختلفة الأشكال والاستعمار والحروب والاحتلال. اللاجئون والمشردون والمضطهدون اليوم يمثلون أولئك الذين أشار إليهم دوستويفسكي في الزنازين المظلمة والمصانع والمزارع، يعيشون في ظروف قاسية بلا أمل في حل قريب أو ظروف أفضل.

في فلسطين، يتحقق "الجحيم الأرضي" بشكل مضاعف. فالاحتلال الإسرائيلي يعمّق معاناة شعبنا الفلسطيني عبر سياساته الاستيطانية من التهجير القسري، الضم، القمع والقتل اليومي، الحصار وحرب الإبادة والاقتلاع. الفلسطينيون في غزة يعيشون الجحيم الأرضي يومياً بفعل جرائم حرب الاحتلال غير المسبوقة ومن جعل مكانهم غير قابل للحياة الذي يحرمهم من أدنى مقومات الحياة نفسها المفقودة بكل المعاني. فيما يعاني سكان مخيمات الضفة ممن يجري الآن من تهجير قسري لأكثر من ستين ألفًا من بيوتهم، كما يعاني باقي الشعب الفلسطيني في كل زوايا الوطن التاريخي من سياسات القمع والهدم والقتل ومن الاستيطان والضم والتمييز العنصري والفوقية. حتى اللاجئون الفلسطينيون في الشتات، الذين هُجّروا قسراً منذ جريمة النكبة يواجهون مصيراً لا يقل قسوة عن الشخصيات في زنزانة دوستويفسكي على أثر لعنة الشتات القسري.

على الجانب الآخر، أصبحنا اليوم نفتقد نحن بالحركة الوطنية الفلسطينية رؤية سياسية واضحة متكاملة وجامعة موحدة للتخلص من مشاريع الاحتلال الذي يريدونه مستداماً لمنع قدوم أيام أفضل يتوجب أن نعيشها بعد جحيم أرضي دنيوي طال أمده وتطورت أشكاله منذ قرن من الزمن. هذا في وقت يتزايد فيه استغلال الدين الحنيف والشعارات السياسية أو اللهث وراء وعود سرابية أميركية زائفة من حلول اقتصادية أو أمنية دون خطوات سياسية ملموسة لتحقيق الحرية والعدالة والكرامة في إطار حقوقنا غير القابلة للتصرف.

إن قصة دوستويفسكي تحمل رسالة واضحة، مفادها أن الجحيم الحقيقي ليس في المستقبل البعيد أو في الآخرة، بل في الظلم الأرضي الدنيوي  الواقع هنا والآن. ما تحتاجه شعوبنا العربية وفي فلسطين تحديداً ليس مزيداً من التهديدات بالجحيم الأرضي أو الوعود بالأمل في المستقبل والآخرة، بل سياسات تُعيد للإنسان حريته وكرامته الإنسانية على الأرض الآن الآن وليس غداً كما غَنت فيروز.

في فلسطين، يتطلب ذلك إعادة بناء ووضوح المشروع الوطني الفلسطيني المعاصر، بتعزيز الوحدة والشراكة بين الكُل الوطني، مع التركيز على استراتيجيات سياسية مقاومة عقلانية فعّالة تُعيد الإعتبار لمعنى التحرر الوطني الديمقراطي وتحافظ على بقاء وصمود شعبنا كشكل من المقاومة، تسعى لإنهاء الاحتلال أولاً وتحقيق العدالة والكرامة الإنسانية دون أن يتمنى البعض الهزيمة للبعض الآخر من شعبنا بغض النظر عن الخلاف أو الإتفاق بين الأطراف، والتي تحتاج تجربتهم إلى المراجعة والتقييم النقدي كما تحتاج أيضًا كذلك تجربة ما بعد اتفاق أوسلو وصولاً إلى ما نحن عليه اليوم.

أما على مستوى المشرق العربي، فالحل يبدأ من وجود نظم ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وتبتعد عن الغزوات والطائفية والأثنية وفرض أنظمة الأمر الواقع بالحكم دون انتخابات او تكريس مراكز قوى تحت شعارات "دينية زائفة" أو "مقولات قانونية" يُقال بأنها تسمح ببقاء القديم على قدمه. نحتاج ليس فقط إلى أنظمة ديمقراطيات انتخابية وشعبية تضع حداً للأستغلال والقمع وتداعيات الإستعمار القديم والجديد، بل إلى ثقافة مواطنة ومقاوِمة شعبية حقيقية واعية عقلانية في مواجهة محاولات كي الوعي أو ثقافة الهزيمة.

قصة دوستويفسكي ليست مجرد خيال أدبي، بل انعكاس للواقع المُعاش. شعوب مشرقنا العربي وخاصة في فلسطين تعاني من جحيم الهيمنة الأميركية وتوحش العربدة الصهيونية والعنصرية وغياب المشروع العربي الموحد واستمرار وجود أشكال الانقسام السياسي والأجتماعي التي تُفاقم معاناة شعبنا إلى جانب غياب الرقابة والمسائلة واكتمال الأجور والغلاء الفاحش والبطالة، وعدم القدرة على حماية شعبنا بل ووجود السلطة الوطنية نفسها التي اعتقدنا بأنها طريقنا إلى الدولة. وذلك في ظل متغيرات متسارعة قادمة على الأرض يتم الإفصاح عنها من حكام الاحتلال اليوم بوضوح أمام العالم من العرب والعَجم والتي لم تُبقي مصداقية أو مكانًا لمبدأ حل الدولتين الأممي الذي جعلوه في مهب الريح واستُبدل بمشروع إسرائيل الكبرى.

التغيير يتطلب مواجهة هذا الجحيم بصدق انتماء وشجاعة موقف تكرس المصلحة العامة والقرار الوطني المستقل، والبدء بسياسات تبني العدالة الإجتماعية والديمقراطية والمشاركة والكرامة وصولاً إلى الحرية والاستقلال الوطني بدلاً من استغلال الدين أو صراع الشعارات والخطابات بين الانتصار والهزيمة لفرض المزيد من قهر الذات عبر الإنتظار.

التغير يتطلب تجسيد معاني وَطن حُر لشعبٍ مِنَ الأحرار كما كان يؤكد الزعيم الخالد والشهيد الرمز ياسر عرفات، والاعتبار لما جاء في نص وثيقة إعلان الاستقلال بأن الشعب هو مَصدر السلطات، وبأن الدين للّه والوطن وللجميع كما صرخَ سعد زغلول، والوعي بأن ثقافة المقاومة إذا ساوت بين القاتل والقتيل انهزمت في عدميتها، فانتصر القاتل، كما كتب المُفكر الشهيد حسين مروة "مهدي عامل".