المشهد الإسرائيلي القائم بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 ساهم بشكل كيفي في تعميق الأزمات الموجودة، وأنتج سياقات أزمات أخرى غير مسبوقة، كما أوردت أمس في زاويتي "مقدمات الحرب الأهلية"، وكشفت جملة التناقضات المتشابكة والمترابطة عن التداعيات المهددة العامود الفقري الإسرائيلي، أي ببقاء الدولة من عدمها. وهذا ليس تطيرًا، ولا اسقاطًا رغبويًا عاطفيًا، أو وهمًا يدغدغ الخيال الخاص، ولا استباقًا لتطور الأحداث، مع أن الضرورة تملي استشراف المستقبل واستباق التطورات المتعاظمة، ومع ذلك اكتفيت حاليًا، باستقراء التفاعلات الناجمة عن جملة الأزمات والتناقضات التناحرية داخل المجتمع الإسرائيلي، التي تحمل في طياتها مؤشرات تشي بتحولات دراماتيكية غير مسبوقة.
لكن السؤال المطروح على بساط بحث الكتاب والباحثين والقادة الإسرائيليين والفلسطينيين والعرب والأميركيين والأوروبيين الغربين سادة الدولة الإسرائيلية، ما هي السيناريوهات الافتراضية الواقعية وغير الواقعية، الممكنة والتخيلية من خارج الصندوق؟ ما هو شكل الحرب الأهلية القادمة على إسرائيل؟ وهل يكفي الاعتماد وتصديق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي أطلقها يوم السبت، وأول أمس الجمعة 21 و22 آذار/مارس الحالي، بأن إسرائيل دولة ديمقراطية، ولن يكون فيها حرب أهلية، ردًا على السياسيين والإعلاميين الذين يترقبون حدوثها بين لحظة وأخرى. لا سيما وأن رجل إسرائيل القوي، الذي يصادر وينسف مرتكزات وقواعد الدولة العميقة، ويكمم الأفواه والحريات ويلاحق ويقمع كل من يتعارض مع توجهاته وسياساته الانقلابية، ويبدد بقايا الديمقراطية الإسرائيلية العنصرية والانتقائية، لا يمكن أن يعترف بانهيار واضمحلال الديمقراطية، وهو الذي أدخل المحكمة العليا الإسرائيلية في موت سريري، وفق الكاتب تسفي برئيل، وانقض على الدولة العميقة بإقالة يوآف غالانت وزير الجيش السابق، ودفع هرتسي هليفي، رئيس الأركان للاستقالة، ويطارد الآن مع أركان ائتلافه الحاكم، رئيس جهاز الشاباك، رونين بار، ويلاحق المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهراب ميارا، وكذلك رئيس جهاز الموساد، ديفيد برنياع. فضلاً عن ملاحقة كل إسرائيلي يتفوه بكلمة سلبية عن الائتلاف الحاكم، ويتهم الجميع ب "الخيانة" و"اليسار" أو حتى "معاداة السامية" في ذرائعية ممجوجة ومتهالكة.
بالعودة للسؤال، أذهب للاستنتاج، وأفترض أن السيناريو المحتمل الأول هو ما دعا إليه رئيس المعارضة الإسرائيلية، يئير لبيد، وهو العصيان المدني، ولهذا السيناريو مصداقية عالية، حيث توعدت كل من الهستدروت ونادي رجال الأعمال وشركات الهدهد التكنولوجية، بالتلازم مع رفض نحو 30% من الضباط والجنود الاحتياط من الالتزام بالعودة للخدمة العسكرية، لا سيما وأن نتنياهو ما زال مصرًا على إقالة رئيس الشاباك والمستشارة القضائية، ورافضًا الالتزام بقرار المحكمة العليا الإسرائيلية؛ السيناريو الثاني، قد لا يكون انقلابًا عسكريًا كلاسيكيًا، وإنما قد يدعو عدد كبير من ضباط الجيش العاملين والاحتياط بالتشارك مع وزراء حرب ورؤساء أركان سابقين قادة الالوية والوحدات العسكرية لعدم الالتزام بقرارات الائتلاف الحاكم، واتخاذ قرارات بسحب قواتهم من غلاف قطاع غزة، وحتى من محافظات الشمال الفلسطينية، ما سيلقي بظلال كثيفة على قدرة إسرائيل في مواصلة الإبادة الجماعية، أو قد يلجأ عدد من قادة الفرق والألوية والكتائب بالتوافق مع عدد من أركان الأجهزة الأمنية إلى الاستقالة، والخروج من الخدمة، أو التلويح بها إن لم يذعن الائتلاف الحاكم لوقف سياسة استباحة الدولة العميقة، ومنح الأولوية للأفراج عن الرهائن الإسرائيليين؛ السيناريو الثالث لجوء نتنياهو وفريقه لخيار توسيع دوامة الحرب على غزة ولبنان وسوريا والعراق والأردن والتحرش بالقوات المصرية لقطع الطريق على التهديدات المتصاعدة من الشارع الإسرائيلي وقادة المعارضة وذوي الرهائن، وتوريط إدارة ترمب فيما لا تريده. كون رئيس الحكومة يدرك أهمية الذهاب لتوسيع جبهات المواجهة مع الفلسطينيين والعرب ومعهم بلاد فارس (ولم أشر لليمن لأن إدارة ترمب طلبت من نتنياهو ان يترك ملفها لإدارته)، بهدف حرف الأنظار عن التناقضات الداخلية. ولكن لست متأكدًا من أن قادة الجيش والأجهزة الأمنية يتساوقون معه، بغض النظر عن خلفياتهم السياسية، وحتى لو كانوا من اتباعه.
والسيناريو الرابع لجوء بعض قادة الجيش والأجهزة الأمنية لاعتقال عددًا من زعماء الائتلاف، وخاصة بتسليئيل سموتريش وايتمار بن غفير، كونهم يعتبرونهم رأس الافعى، خاصةً وأن بن غفير تم اعتقاله سابقًا، ووجهت له تهمة "الإرهاب"، ومثل هذا السيناريو قد يزيد من خطر الاصطدام بين القوى الدينية الصهيونية والقوى العلمانية الليبرالية، ويفتح الأفق نحو إشعال نار الحرب الأهلية، أو العكس صحيح، يقوم رئيس الوزراء بإصدار أوامر باعتقال رونين بار، في حال رفض الالتزام بقرار الحكومة بعزله، وهذا من المؤكد سيفجر الساحة الإسرائيلية، أو إصدار أوامر باعتقال عدد من الضباط الذين رفضوا الخدمة، أو قد يرفضونها لاحقًا، مما يُفاقم الوضع أكثر فأكثر؛ السيناريو الخامس في حال موت عدد أو كل الرهائن الإسرائيليين الأحياء، فهذا الأمر سيشعل النيران بشكل يفوق ما هو قائم حاليًا من حدة التناقضات، وقد يأخذ الأمور إلى مآلات دراماتيكية خطيرة لا يحمد عقباها.
وقد يكون هناك سيناريوهات أخرى، لم انتبه لها، أو سقطت من قراءتي للمشهد الإسرائيلي. إلا أن المؤكد لدي، أن إسرائيل تتجه بخطى حثيثة نحو مستنقع كارثي لم تشهده من قبل، وسيؤثر بالضرورة على بقائها ووجودها.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها