من بديهيات السياسة وابداعاتها، وفنها قدرة أي قيادة سياسية في الأزمات والصراعات بمستوياتها المختلفة الداخلية والخارجية، البحث الدائم عن الحلقة المركزية في الصراع، والتقاطها، والتعامل معها وفق موازين القوى في اللحظة السياسية المحددة، وتدوير الزوايا ارتباطًا بتغير صناع القرار وشروط الصراع، والابتعاد عن فرضية العدالة، دون التخلي عنها، أو تغييبها، ولكن العدالة لوحدها في عالم يفتقد لها، ويموج بالتحولات الجيوسياسية وصراع الأقطاب، لا يكفي، وبالتالي تلجأ القيادات للتعامل مع محددات الواقع، كي تتمكن من تجنب وتفادي مضاعفة الخسائر في الجانب السياسي/العسكري والقانوني والاقتصادي المالي والأرواح.
كما أن لعبة السياسة في لحظات بعينها لا تحتمل خيار الانتظار، والمماطلة والتسويف بالنسبة للطرف الضعيف في الصراعات المسلحة، وعليه بقدر ما يستطيع من تحسين شروط التفاوض مع الأعداء، وانتزاع ما يمكن انتزاعه من إنجازات، بقدر ما تفرض عليه إدارة الصراع التنبه لأية تحديثات في لوحة المواجهة، والتركيز على قراءة خلفيات صانع القرار في الطرف المقابل، بالتلازم مع القوى الإقليمية والدولية المساندة والداعمة له، وبذات المستوى الإمكانيات والقدرات الذاتية، والوضع الناجم عن الصراع، والقوى المؤيدة والمساندة للطرف الضعيف، ليتمكن من وضع تقدير حكيم ومسؤول والخروج بأقل الخسائر.

ما حدث أول أمس الثلاثاء 18 آذار مارس الحالي من هجوم إسرائيلي وحشي إبادي على قطاع غزة، كان الأكثر هولاً وفظاعة ونازية خلال الشهور الـ18 الماضية، وجاء نتاج جهل إدارة قيادة حركة حماس ومن يدور في فلكها من قوى فن السياسة، وعدم التقاط اللحظة المناسبة في المساومة بين الذهاب للمرحلة الثانية، وبين تمديد المرحلة الأولى زائد، وبالتالي بعد ان علمت ونُشِرَ على الملأ عن تحفظ إسرائيل على مفاوضاتها مع آدم بولر، وتراجع ستيف ويتكوف عن مقترحه السابق، وتساوقه مع اشتراطات نتنياهو وأركان حكومته، في ظل إطلاق الرئيس ترمب تصريحاته المتكررة عن الجحيم الذي سيحدثه، إن لم يتم تسليم المحتجزين، كان عليها أن تعيد النظر في تشددها بشأن الإفراج عن عدد الرهائن الإسرائيليين وخاصةً من حملة الجنسية الأميركية، لتفادي المجازر الوحشية التي أدمت قلب الشعب الفلسطيني، والتي كان ينتظرها نتنياهو من السماء، ليعيد دوامة الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني، ويقطع الطريق على الصراع مع أركان الدولة العميقة والمعارضة وذوي المحتجزين الإسرائيليين، ويحافظ على أهدافه وائتلافه الحاكم، واستعادة بن غفير لتمرير الموازنة قبل التصويت عليها يوم الاثنين القادم.
وبعد مجازر يوم الثلاثاء السوداء، أول أمس، خرج ممثلو حركة حماس على الفضائيات ليعلنوا عن المرونة الزائدة، وأنهم مستعدون للتفاوض دون شروط مسبقة، كما صرح طاهر النونو وأسامة حمدان وخليل الحية، ليس هذا فحسب، بل إن الحية أعلن بصراحة، أن حماس ستُفرج عن أربعة جثامين اليوم الخميس 20 آذار/مارس، وعن ستة محتجزين أحياء يوم السبت القادم 22 آذار/مارس الحالي. أي أنه كان بإمكان الحية ومحمد السنوار وغيرهم من قيادة حركة حماس حقن الدماء الفلسطينية، وقطع الطريق على خطة نتنياهو سموتريتش وايال زمير، ومن خلفهم الرئيس ترمب الذي هدد بجهنم عشرين مرة، رغم أنه ادعى حرصه على تحقيق السلام، ولكنه لم يكن يقصد السلام على المسار الفلسطيني الإسرائيلي، بل أمد إسرائيل بكل ما يزيدها غطرسة ونازية. باختصار أكدت قيادة حماس أنها لم تتعلم من دروس الإبادة الجماعية، ولا يبدو أنها بوارد التعلم. وأسقطت من أيديها ورقة المحتجزين الأهم، والآن تلهث قيادتها خلف نتنياهو وإدارة ترمب لاستجدائهم وبلا ثمن.   

وهنا لا أريد أن أتحدث عن الخطيئة الكبرى في ذهاب قيادة حماس إلى "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، وجهلهم في قراءة موازين القوى، ولا أريد أن أذهب بعيدًا في استنتاجاتي بشأن الفكرة من حيث المبدأ، وخلفياتها غير البرئية، وأيضًا عدم استعداد قيادة فرع الإخوان المسلمين بأن تدير قيادة منظمة التحرير ملف المفاوضات، وذهاب حركة حماس إلى سياسة الاستعراض والتشبث بالبقاء في محوطة الإمارة الانقلابية، ولم تستجيب لنداء العقل والمنطق والمصلحة الذاتية الخاصة بالحركة والوطنية، عبر السماح حتى اللحظة الراهنة بولاية منظمة التحرير والدولة والحكومة على قطاع غزة، وتكاملت مع إسرائيل في ذات الهدف المتناقض مع وحدة ومصالح الشعب العليا. وللحديث بقية بهذا الشأن.