يبدو أنه كتب عليّ أن أنعى وأودع إخوتي و أصدقائي ورفاق دربي الواحد تلو الآخر، آه ما أصعبها على نفسي وتوجع قلبي.

الحرس القديم في حركة "فتح"، قائدة ومفجرة الثورة الفلسطينية المعاصرة يترجّل ليلاقي ربه راضياً مرضياً.

غالبية الخلية الأولى رحلت، والكثيرون من الصف الثاني كذلك. وهاهم يرحلون تاركين وراءهم إرثاً ضخماً "فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ".

آخر هؤلاء الحرّاس وليس الأخير غادرنا قبل أيام قليلة في بداية هذا الشهر الكريم. شهر الصوم وهو الأخ الكبير عبد الحميد القدسي "أبو ثائر"، وهو الكبير في عمله، الكبير في نضاله وجهاده ضد المحتل الغاصب، الكبير في خلقه وإيمانه، الكبير في سيرته العطرة عند القيادات وعند العناصر.

أزقة القدس العتيقة تعرف أبا ثائر، تتابع طيفه أينما اتجه، حمتْه وحمت صاحبه الكبير أبو عمار عندما توجه القائد الرمز ياسر عرفات إلى الأرض المحتلة بعد هزيمة حزيران عام 1967.
زنازين الأخوة العرب حنّت عليه وضمّته بحب، وزنازين المحتل الغاصب عرفته في مختلف سجون ومعتقلات العدوّ.
رفاقه في المعتقلات حيث كان القائد الفذّ في تلك المعتقلات، أحبوه في "فتح" وفي مختلف فصائل "م.ت.ف"، حيث لم يفرق بينهم، فقد كان انتماءه لفتح، على حساب التنظيمات الأخرى.

وهذا ما فعله في سنوات خدمته في السلطة الوطنية الفلسطينية كذلك. أحبّه وقدّره واحترمه جميع العاملين معه عندما كان وكيلاً لوزارة التموين في السلطة الوطنية.

كان أول لقاء لي به في بيروت بعد خروجه من المعتقلات يوم أن زارنا في إذاعة الثورة الفلسطينية هناك ومنذ ذلك التاريخ ونحن أصدقاء وليس رفاق درب فقط. أصدقاء وإخوة عشنا ظروف احتلال الضفة عام 2002 وكان دائم الثقة بأن هذا الاحتلال إلى زوال مهما فعل، فقد خَبِرَهُ في السجون والمعتقلات الإسرائيلية منذ البدايات. وثقته بالنصر حتمية ليس فقط بإنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة على أرض الخامس من حزيران عام 1967 ولكن باستعادة فلسطين حرة عربية مهما طال الزمن.

كان له عمله الخاص مع قادة الخلية الأولى، مع أبو عمار ومع أبو جهاد لا يعرفها الكثيرون سواء في حركة "فتح" أو خارجها. كان يعمل بإخلاص وتواضع في خدمة قضيته وفي أي مجال كان يلتحق به أو يكلف به.

تشاركنا في وفود إلى بعض الدول، وكانت صحبته ممتعة، وتشاركنا أيضًا في عضوية المجلس الوطني الفلسطيني وفي عضوية المجلس الاستشاري لحركة "فتح".

وفي الفتره الأخيرة كان متشائمًا مما آلت إليه "فتح" رغم تفاؤله الدائم، ينتقد من أجل البناء ولا يخشى في الحق لومة لائم.
كان جريئاً في طرحه أمام قائده ورفيقه أبو عمار كما كان مع أبو جهاد.
كان دائماً يحاول أن يكون النموذج الذي يحتذى به.
أحبّه الجميع، سواء من يوافقه الرأي أو يخالفه، ويبقى محبوب الجميع.

أذكر يوماً عندما كنت مسؤولاً للإعلام الفلسطيني في الأردن أنه حمّلني هدية للأخ أبو عمار في تونس حيث عقد اجتماع المجلس الثوري هناك. وكانت عبارة عن عبوّة عسل. والعسل لا يصل إلى أبو عمار إلا ممن يثق بهم فقد كان يحلّي به الشاي كعادته لفترة طويلة.
أبو ثائر كان من أهم من يثق بهم الأخ أبو عمار.
رحم الله قائدنا الشهيد الرمز "ياسر عرفات" أبو عمار
ورحم الله القائد الثقة أحد قادة الحرس القديم أبو ثائر. إلى جنات الخلد أيها الحبيب مع الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.