لم يكن ظهور وزير الخارجية الأميركي مارك روبيو بعلامة "أربعاء الرماد بوضع إشارة الصليب على جبهته" مجرد تعبير عن إيمانٍ شخصي، بل هو جزء من اتجاه أوسع داخل السياسة الأميركية، حيث يتم توظيف الرموز الدينية لخدمة أجندات سياسية استعمارية توسعية. هذا المشهد يعيد إلى الأذهان حملات الأفرنجة "الصليبية" التي استُخدمت غطاءً للاستعمار وقُتِلَ خلالها أعداد كبيرة من مسيحي المشرق العربي كما من العرب المسلمين وتم الإعتداء على كنائسهم، كما يُذكرنا بتاريخ جماعات عنصرية مثل كو كلوكس كلان بالولايات المتحدة التي وظفت سابقًا الدين ورموزه لتبرير التمييز والأضطهاد العنصري ضد السود، كما واعتبر بعض الساسة والرؤساء الأميركيين أنفسهم هبة من الله أو عندما ارتكبوا المحارق ضد سكان أميركا الأصليين واحتفلوا به لاحقًا في يوم أسموه "بعيد الشكر لله" ليعطوه بعداً دينياً مزيفاً، كما وأنزلوا قواتهم على شواطئ لبنان بنهاية خمسينيات القرن الماضي بحجة حماية المسيحين، بل كان أول تدخل استعماري عسكري أميركي بمنطقتنا لتتبعه لاحقًا غزوات استعمارية متلاحقة ضد مصالح وحقوق شعوبنا حتى هذا اليوم لحماية جوهر الاحتلال وتفوق دولته.

- المسيحية الصهيونية والتداخل المشوَّه بين الدين والسياسة

في الولايات المتحدة، التيار المسيحي الصهيوني يلعب دورًا حاسمًا في رسم السياسات الخارجية، خاصةً تجاه الشرق الأوسط، حيث يشكل القاعدة الانتخابية الأكبر للرئيس الأميركي ترامب ولتمدد المحافظين الجدد حتى في القارة الأوروبية اليوم من خلال اليمين الشعبوي. هؤلاء لا يدعمون إسرائيل باعتبارها مجرد دولة حليفة فقط، بل يرونها تحقيقًا لنبوءات دينية مزعومة، مما يؤدي إلى دعم غير مشروط للاحتلال والاستيطان، متجاهلين حقوق شعبنا الفلسطيني ومعاناة أبنائه المسيحيين والمسلمين في الأرض المقدسة نتيجة وجود الاحتلال وجرائمه.

هذا التوظيف المشوَّه للدين ليس جديدًا، فقد رأيناه في خطاب دونالد ترامب عندما نقل السفارة الأميركية إلى القدس واعتبرها عاصمة مزعومة لإسرائيل، وها نحن نراه مجددًا في عهد إدارته الحالية التي بررت للاحتلال والمستوطنين ما يسمى بحقهم التوراتي في فلسطين، حيث يتكرر المشهد بنفس الإيديولوجيا ولكن بأساليب جديدة اليوم أيضًا وسيتكرر غداً بأشكال أخرى.

- مسؤولية الكنائس في مواجهة هذا الخطاب

إن التصدي لهذا التوظيف السياسي للدين لا يجب أن يقتصر على الأصوات العربية المسيحية والإسلامية، بل يتطلب دورًا فاعلاً من الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية في أميركا والعالم. هذه الكنائس التي لم تكن يومًا جزءًا من المسيحية الصهيونية، تتحمل مسؤولية أخلاقية في فضح هذه الأجندات التي تستخدم الدين لتبرير الظلم والاضطهاد.

كما أن المسيحيون الفلسطينيون أنفسهم يجب أن يكون لهم صوتٌ أقوى في هذا النقاش وفي فضح هذه الإساءات للدين نفسه، فهم الشاهد الحي على كيف أن الاحتلال لا يميز بين شركاء الوطن الواحد من مسلم ومسيحي في قمعه واضطهاده المتصاعد منذ جريمة النكبة حتى اليوم.

- كيف يمكن مواجهة هذا الخطاب؟.

1. توسيع التواصل مع الحركات المسيحية التقدمية في الغرب، التي تؤمن بالعدالة والمساواة وترفض استخدام الدين لخدمة الاحتلال، بل وتدين جرائمه الإبادية.

2. تعزيز دور الإعلام في كشف التناقض بين الخطاب الديني والسياسات الإمبريالية الأميركية.

3. إبراز شهادات المسيحيين الفلسطينيين في المحافل الدولية، وتسليط الضوء على معاناتهم تحت الاحتلال والاستيطان.

إن ظهور وزير الخارجية الأميركي بهذا الشكل ليس مجرد تفصيل عابر، بل هو جزء من استغلال مشوه وتلاعب سياسي بالدين يهدف إلى تبرير الاحتلال والتغطية على الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني وشعوب العالم التي تعرضت لاضطهاد بشع نتيجة سياسات وحروب الولايات المتحدة ومواقفها. التصدي لهذا الأمر لا يكون بمعاداة الدين، حيث لا علاقة ولا مسوؤلية لتعاليم الدين الحنيف بذلك التشويه، بل بكشف زيف هذا التوظيف البشع وفضح استغلال العقيدة لخدمة المصالح الاستعمارية واضطهاد الشعوب المستضعفة في الأرض.