المشاهد التي تصل إلينا حول حرب الإبادة في غزة، أو حرب المخيمات في الضفة الغربية أو الحملة المسعورة للاستيطان تجعلنا نقف لنراقب المشهد عن كثب، من جهة تلك الدماء التي تجري كالأنهار على الرمال، أطفال تنام ولا تصحو إلا جثث من تحت الأنقاض، أو تتطاير لحومهم في الفضاء، وما بين القرصنة للأرض والأموال، وما بين تهجير واحلال، ورواد للمقهى يجلسون لاحتساء القهوة فتصيبهم شظايا القنابل فلا يقومون في مشهد غاب عنه الوعي المحلي والعربي والإسلامي لما يحدث ويدور. آلة التهويد تدور ولا تتوقف عن الدوران لأسرلة وتهويد كل ما هو عربي وإسلامي، بمباركة أو بغير مباركة لقوى الظلام في هذ العالم. الحرب التي تدور هي وسيلة تمضي بلا هوادة خدمة للمشروع الإسرائيلي الذي تم ذكره "التهويد والأسرلة " للأرض الفلسطينية. في قطاع غزة والضفة الغربية، لذلك الحرب ماضية بأي شكلٍ من الأشكال، وتحت الضغط فتح باب التهجير الذي بات يمضي قدمًا بدعم من جهات دولية وعبر معبر رامون.
المشروع الإسرائيلي في سلم أولوياته أمران هما المشروع الاستيطاني، والثاني كي الوعي الفلسطيني وتدمير الحلم الفلسطيني بإقامة دولة فلسطين وعاصمتها القدس. المشروع الاستيطاني يعتمد كما يعلم الجميع على الاحلال بمعنى تهجير الفلسطينيين واحلال اليهود مكانهم. وحتى يفهم القارئ كيف يتم طرد العرب فإن هناك إجراءات معقدة تُتبع في سبيل ذلك وعامل الوقت مفتوح، أي بمعنى أن الإجراءات الاحتلالية تبقى قائمة في الحصار والتضييق على السكان وإغلاق الطرق، وحمل الأمتعة على الأكتاف لمسافات طويلة، ونقل المرضى لا يتم بشق الأنفس، وكذلك لدفن من توفاه الله في المقابر، والأهم من ذلك أن التكاثر الطبيعي في المناطق المستهدفة من الاستيطان شبه معدوم، ومن يتوفاه الله يمنع أن يحل مكانه أي من أبنائه أو إخوانه فتذهب الأملاك إلى أيدي المستوطنين. وتلك هي الإجراءات المتبعة، عدا عن استفزازات المستوطنين وتعدياتهم على الفلسطينيين من أجل ذلك. كثير من التجمعات السكنية يُمنع فتح طرقات لخدمة المواطنين فيها، ويمنع حتى تركيب ألواح الكهرباء الشمسية للإضاءة، ويمنع إضافة غرفة من الاسمنت وغير ذلك من الإجراءات. وما يقال يحتاج إلى مجلدات لذكره ومتابعته.
أصبح عدد المستوطنين اليوم حوالي ثماني مئة ألف في الضفة الغربية، ينتشرون على طول ما يعرف في المنطقة "ج"، التي تشكل %62 من مساحة الضفة الغربية، كما أن هذه المستوطنات تحاصر المدن الفلسطينية وهو الأمر الذي يمنع التمدد الطبيعي للمدن الفلسطينية، ما يعني التهجير القسري للفلسطينيين الذين لا يجدون مساحة كافية للعيش فيها، بسبب هذه السياسة. والمستوطنون اليوم عبارة عن جيش رديف لجيش الاحتلال الإسرائيلي، مهامهم الرئيسية تضييق الخناق على الفلسطينيين وإجبارهم على الهجرة، باستعمال كل الأدوات الممكنة والتسهيلات التي تقدمها الحكومة الإسرائيلية لهم، وهي حكومة من المستوطنين وزعماء الاستيطان المتطرفين. بن غفير اليوم يزور الولايات المتحدة الأميركية بعدما رفع الحظر والعقوبات عنه، ويقيم الندوات ويجمع الأموال للاستيطان. في وقتٍ لاحق من ذلك المساء، يستضيف فرع من فروع حركة "حاباد- لوبافيتش" بن غفير في حفل جمع تبرعات في بروكلين لصالح حركة حاباد في الخليل، في الضفة الغربية. ويعلن فرع بايس شموئيل حاباد، في كراون هايتس، عن "حلقة نقاش مفتوحة" مع بن غفير لاكتساب نظرة ثاقبة من وراء الكواليس حول الكفاح من أجل السيادة اليهودية على أرض إسرائيل كافةً، والدفع باتجاه النصر من خلال القوة على أعلى مستويات الحكومة. يبلغ سعر التذكرة للمشاركة في هذه الحلقة 36 دولار للشخص الواحد.
المشهد للواقع الفلسطيني الجغرافي يقبع في معازل أشبه بالسجون الواسعة، التي تغلق بوابتها بأوامر الجيش الإسرائيلي، أو تحريض المستوطنين فيمنع عنهم الحركة والتنقل بين المدن، وتتعطل كل أنواع الحياة فيها، وتصاب القطاعات المختلفة: "اقتصادية واجتماعية وغذائية" بالشلل إذا ما أغلقت تلك البوابات، ومنذ عملية السابع من أكتوبر تعمدت إسرائيل إلى تعميق الحواجز والبوابات وحدت بشكل واسع حركة المواطنين من خلال إجراءاتها وقيودها. فتلك البوابات والحواجز يقترب عددها في الضفة الغربية من ألف حاجز تنتشر حول المدن والقرى والمخيمات والطرق.
وفي خضم هذا الواقع الاستيطاني المرير والحرب التي تشن على غزة والضفة الغربية تعمل إسرائيل بهدوء على المشروع الثاني في القضاء على الحلم الفلسطيني في إقامة الدولة وعاصمتها القدس. المشهد الذي تدير ملفه بعناية حكومة نتنياهو، تعمل ليل نهار على تقويض السلطة الفلسطينية، وتشويه برنامج عملها وخدماتها، والمثال الأخير تدخل نتنياهو شخصيًا لمنع الطائرة الأردنية من نقل سيادة الرئيس محمود عباس هو مثالٌ حي على ذلك. وبرنامج تقويض السلطة الفلسطينية من قبل إسرائيل هو مشروع كبير في المشهد، ولديها كل الخطط والبرامج التي تخدم هذا المشروع، وبسبب بسيط لكنه هام أن المشروع الفلسطيني منذ ولادته شعرت إسرائيل أنه يقوض أحلامها في التوسع وأنه يضبط حدودها لذا هي أدركت خطأها بتوقيع اتفاق أوسلو وإن كان هزيلاً في نظر الفلسطينيين، وأخذت تعمل على إلغاء تلك الاتفاقية.
وهذا السياق فإن إسرائيل ترى في الإسلام السياسي البرنامج المنافس الذي يقوض السلطة الفلسطينية وليس حبًا فيه لكنه ترى فيه تحقيق مآربها، طالما أنه يمكن لها تحديد مساره في انعاشه أو إضعافه كما تشاء، وهو نفس التوجه والأسلوب في تعزيز الفرقة السياسية في العالم العربي، حيث يُدار هذا الملف بإبداع امتناعي لخلق البلبلة والتمرد في البلدان العربية، وهذا الواقع له ما له وعليه ما عليه فكثير من الأمور تحدث خارج نطاق المألوف لتشويه الحقائق على الأرض وتنسب إلى تلك الجهات لتعزيز الانقسام في بلادنا العربية. وهذا ما قامت به في غزة عندما عززت الانقسام، فالإخوان المسلمين يرون في غزة نواة لمشروعهم العالمي، وهذا الحديث يتحدثون به الإخوة في حركة "حماس"، فالزهار يقول: إن "مشروعنا أكبر من فلسطين". على كل الأحوال موضوع اللحمة الفلسطينية تبدو بعيدة المنال لأن إسرائيل تقتل كل من لديه التوجه الحقيقي للوحدة الفلسطينية مثل الشيخ أحمد ياسين والشهيد الرنتيسي وكان آخرها الشيخ صالح العاروري رحمه الله الذي كان يحمل هذا الفكر الوحدوي في حركة حماس. لكن هل من الممكن تفويت الفرص على العدو، وتعزيز اللحمة والوحدة الفلسطينية، سؤال بحجم الكرة الأرضية، يحتاج إلى إرادة ونوايا حسنة لتذليل العقبات. فما زالت المزايدات سيدة الموقف، وفلسطين تُهدم ويُهجر أهلها، فهل هذا سيوقظ الحالمين؟. اليوم هناك حاجة إلى من يعزز الصمود، ويمنع التهجير ويحمي الأرض والمقدسات.
المشهد الذي تقوده إسرائيل وعدد من دول العالم الكبرى أكبر حتى من تتحمله السلطة الفلسطينية ويحتاج إلى الاسناد العربي والإسلامي ما بين الإغاثة، وترميم النكبات هنا وهناك وتعزيز الصمود، وإبقاء على قناديل الأقصى والحرم الإبراهيمي مضاءة. فلسطين لم تعد تحتمل المزايدات أو الشعارات.
حماك الله يا فلسطين، وحمى الشعب الفلسطيني.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها