في ذكرى "مؤتمر باندونغ" التي حلت علينا يوم 25 نيسان، وما بات يعرف "باليوم العالمي لمقاومة الاستعمار"، نتذكر أن الشعوب حين تتوحد من أجل العدالة والحرية، تصنع التاريخ. لقد اجتمع قادة دول الجنوب قبل سبعين عاماً في وجه قوى الاستعمار، وأطلقوا مشروعاً عالمياً عنوانه التحرر والتضامن والعدالة. اليوم، وفي ظل ما يتعرض له شعبنا الفلسطيني بمحرقة القرن21 من إبادة وتهجير واستعمار استيطاني، تعود روح "باندونغ" لتذكرنا أن الاستعمار لم ينتهِ، بل تغيّر شكله وتعددت أدواته. ولذلك، فإن نضالنا الفلسطيني هو استمرار حي لذاك المشروع العالمي المناهض للاستعمار بكل أشكاله القديمة والجديدة.
إنّ المشروع الذي نشأ "بالعالم الثالث" لم يكن مجرد لحظة رمزية في منتصف القرن العشرين، بل كان تعبيرًا صادقًا عن إرادة الشعوب المستعمَرة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط في التحرر من الهيمنة الغربية وبناء نظام عالمي أكثر عدالة. وقد مثّل "مؤتمر باندونغ عام 1955" أول تجسيد عملي لتلك الإرادة المشتركة للشعوب المستضعفة بالأرض.
ففي مدينة باندونغ الإندونيسية، اجتمع زعماء دول حديثة الاستقلال آنذاك بقيادة زعماء وطنيين وشخصيات تاريخية مثل جواهر لال نهرو من الهند، والزعيم جمال عبد الناصر من مصر، وكوامي نكروما من غانا، وجوزيف بروز تيتو من يوغوسلافيا والرئيس الإندونيسي سوكارنو، بهدف صياغة موقف موحد ضد الاستعمار والإمبريالية، ومن ثم انضم إليهم زعماء آخرون أمثال أبو عمار وكاسترو وبومدين وغيرهم. لم يكن المؤتمر فقط تحدياً للقطبين العالميين خلال الحرب الباردة، بل كان إعلاناً عن ولادة مشروع شعبي عالمي أراد أن يبني توازناً جديداً في العلاقات الدولية.
لقد رفع المؤتمر ثلاثة شعارات أساسية تمثلت، بالسلام العالمي، والخبز للشعوب، والعدالة للجميع. وقد شكلت هذه الشعارات جوهر المشروع التحرري الذي مثّلته حركات التحرر بالعالم الثالث، حيث توحدت شعوب الأرض المستضعفة خلف قضاياها العادلة، وسعت لبناء تحالفات بديلة خارج نطاق الاستغلال الغربي.
لكن ومع بدايات السبعينيات من القرن الماضي، بدأت هذه الآمال تتلاشى، ليس فقط بفعل تراجع بعض الأنظمة التي استلمت الحكم بعد الاستقلال، بل أيضًا نتيجة تدخلات الدول الغربية وأجهزتها (مثل وكالة الاستخبارات الأميركية CIA، وصندوق النقد الدولي، وحلف الناتو) التي سعت جميعها برعاية الولايات المتحدة لإفشال أي محاولة لبناء نماذج مستقلة تنموية وتحررية وديمقراطية. وهي تدخلات ما زالت جارية حتى اليوم في منطقتنا من خلال محاولات القضاء على أي مقاومة للمشاريع الصهيونية الأميركية لتنفيذ "مشروع الشرق الأوسط الجديد" وإيجاد السلطات المتجددة الموالية لها.
رغم هذه الانتكاسات، بقيت روح باندونغ تُلهم حركات التحرر العالمية، خصوصاً في أميركا اللاتينية وأفريقيا. وكان لفلسطين مكانة خاصة ضمن هذه الحركة، فقد كانت قضيتنا الوطنية التحررية عنواناً جامعاً للضمير العالمي المناهض للاستعمار. ورأى فيها مفكرون ومناضلون أمميون نموذجاً حياً لمعركة الحق والعدالة في وجه الاستعمار الغربي الأبيض والصهيونية العنصرية.
وقد انضم الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إلى هذا المشروع التحرري العالمي بعد انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965، مجسداً روح النضال الفلسطيني كجزء لا يتجزأ من حركة التحرر الوطني لشعوب العالم الثالث. وكان حضوره في المحافل الدولية لا سيما في الأمم المتحدة عام 1974، تأكيداً على هذا الانتماء وهذا الدور للثورة الفلسطينية، حيث رفع غصن الزيتون بيد والبندقية بيد أخرى، مطالباً العالم بالاعتراف بحقوق شعبنا المشروعة وغير القابلة للتصرف.
واليوم، وفي ظل المحرقة الإسرائيلية المستمرة ضد شعبنا، والاستعمار الاستيطاني في الضفة الغربية، والحصار والإبادة في غزة، تعود أهمية استحضار روح "باندونغ" لبناء جبهة دولية جديدة مناهضة للاستعمار والإمبريالية، يكون لفلسطين فيها صوت مركزي. إن ما يعيشه شعبنا الفلسطيني اليوم هو امتداد مباشر لما واجهته شعوب العالم الثالث سابقاً من استغلال وقمع واضطهاد، بل هو أحد أكثر تجليات الاستعمار الحديث بشاعة.
فكما حلمت شعوب "مؤتمر باندونغ" بعالم أكثر عدالة وديمقراطية، يحلم شعبنا الفلسطيني اليوم بالحرية والسيادة والعدالة. وما بين الحلمين، جِسر من التضامن الدولي المتصاعد والمقاومة للاحتلال لا يزال ينبض.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها