لطالما اعتمدت إسرائيل في استراتيجيتها الإقليمية على تفكيك دول المنطقة إلى كيانات أصغر قائمة على أسس طائفية وإثنية، بهدف خلق واقع جيوسياسي جديد يسمح لها بالهيمنة على الشرق الأوسط.
هذه الاستراتيجية، التي كشف عنها الصحفي الهندي البريطاني H. Jansen في كتابه "خنجر إسرائيل في الشرق الأوسط"، سنة 1969، والذي يهدف إلى تمزيق الدول العربية وإعادة تشكيلها بما يتناسب مع المصالح الإسرائيلية، بحيث تصبح تل أبيب القوة المهيمنة وسط فسيفساء من الدويلات الطائفية والعرقية.
تفكيك الدولة الوطنية، خطوة نحو السيطرة، منذ عقود، عملت إسرائيل، مدعومة بقوى غربية، على دعم الحركات الانفصالية وإثارة النزاعات الداخلية في الدول العربية، من لبنان إلى العراق وسوريا واليمن وليبيا.
إن هذا النهج لا يهدف فقط إلى إضعاف الدول العربية وتقويض سيادتها، بل إلى إعادة تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة بما يضمن استمرار تفوق إسرائيل.
إن تقسيم المنطقة العربية إلى دويلات متناحرة على أساس طائفي وقومي، يجعل إسرائيل تبدو وكأنها "الدولة القومية اليهودية" المتوافقة مع هذا النمط الجديد، مما يبرر وجودها العنصري أمام العالم، ويمنحها الشرعية لإقامة تحالفات مع الكيانات المستحدثة على حساب الدولة الوطنية العربية.

- نماذج الكانتونات الطائفية والإثنية المحتملة في المنطقة:

1. سوريا: تجزئة الدولة إلى عدة كيانات متصارعة،
فسوريا تعد واحدة من الدول الأكثر عرضة لهذا المخطط، حيث تم استغلال الحرب الأهلية منذ 2011 لخلق مناطق نفوذ طائفية وإثنية متمايزة. السيناريوهات المحتملة تشمل، دويلة علوية على الساحل السوري، تمتد من اللاذقية إلى طرطوس، تكون مرتبطة بحلفاء إقليميين.
كيان كردي في الشمال الشرقي، يمتد من الحسكة إلى القامشلي، مدعومًا من قوى غربية.
دويلة سنية في المناطق الوسطى والشمالية (إدلب، حلب، دير الزور)، قد تكون تحت نفوذ قوى إقليمية.
جيب درزي في السويداء، يطالب بحكم ذاتي أو ارتباط بمشاريع إقليمية أخرى.

2. العراق استمرار التفكك وفق أسس طائفية وإثنية، فالعراق الذي عانى من الاحتلال الأميركي والتدخلات الإقليمية، يواجه خطر تقسيمه إلى ثلاث مناطق رئيسية، إقليم شيعي في الجنوب، يضم بغداد والبصرة، قد يكون مواليًا لقوى إقليمية كبرى.
إقليم سني في الأنبار وصلاح الدين والموصل، يسعى لحكم ذاتي أو حتى انفصال.
إقليم كردي في الشمال، يتمتع بحكم ذاتي موسع وقد يتجه نحو الاستقلال الكامل.

3. لبنان: الفدرالية الطائفية كبديل للدولة المركزية،
فلبنان بتعدد طوائفه، قد يكون مرشحًا للفدرلة الكاملة على النحو التالي:

- كانتون ماروني في جبل لبنان، مرتبط تاريخيًا بالقوى الغربية.

- كانتون شيعي في الجنوب والبقاع، قد يكون مواليًا لمحور إقليمي محدد.

- كانتون سني في الشمال وبيروت، يسعى إلى دعم إقليمي مضاد.

- جيب درزي في جبل لبنان، يحافظ على استقلالية نسبية.

4. اليمن: التفكيك بين الشمال والجنوب، فاليمن يعاني من صراع طويل بين الحكومة الشرعية والحوثيين، ومن السيناريوهات المحتملة:

- إعادة إحياء دولة الجنوب اليمني بحدود ما قبل 1990، وهو مشروع تدعمه بعض القوى الإقليمية.

- منطقة حكم ذاتي للحوثيين في الشمال، مدعومة من أطراف إقليمية.

- كيانات محلية صغيرة في حضرموت والمهرة، قد تسعى للانفصال أو الارتباط بقوى إقليمية.

- انعكاسات التجزئة والتقسيم على استقرار الشرق الأوسط، إن استمرار هذا النهج لا يهدد فقط الأمن القومي العربي، بل يجعل المنطقة برمتها على صفيح ساخن من النزاعات المستدامة، حيث يتحول كل خلاف داخلي إلى أزمة إقليمية مفتوحة، مما يسهل التدخلات الخارجية، ويجعل الدول العربية في حالة استنزاف دائم.
إن تفكيك الدولة  الوطنية، لا يخدم إلا إسرائيل، بينما يجعل الدول العربية في حالة ضعف دائم، غير قادرة على تشكيل أي جبهة موحدة لمواجهة التحديات المشتركة.

- ضرورة المواجهة: مشروع وحدة مضادة، لمواجهة هذا المخطط، لا بد من استعادة مفهوم الدولة الوطنية الجامعة التي تتجاوز الانقسامات الطائفية والعرقية، وتعزز الهوية الوطنية والمواطنة المتساوية. كما يجب على القوى العربية والإسلامية تشكيل رؤية استراتيجية موحدة لمجابهة مشاريع التقسيم، عبر تعزيز التعاون الإقليمي، ودعم القضايا المشتركة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، باعتبارها جوهر الصراع في المنطقة.
إن مشروع "تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ" ليس مجرد مخطط نظري، بل هو واقع  يجري تنفيذه بشكل متسارع، مستهدفًا تفكيك المنطقة لصالح إسرائيل.
لذلك فإن المواجهة تتطلب وعيًا سياسيًا ووضع استراتيجيات مضادة، تحافظ على وحدة الدول العربية واستقرارها والحيلولة دون تقسيمها تحت أي ظرفٍ كان، وإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية، التي تتطلب وحدة الموقف العربي والإسلامي، ووحدة التحرك السياسي والدبلوماسي والقانوني، وعدم المساومة على الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني المتمثلة في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية، وحق العودة للاجئين الفلسطينيين وحق المساواة، وتمكين الشعب من إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس وفق قواعد القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية التي تؤكد على ذلك.