يبدو أن القمة العربية التي أختتمت أعمالها في القاهرة مساء أمس بغياب عدد من المسؤولين العرب قامت باعتماد خطة نظرية مصرية لإعادة إعمار قطاع غزة، في خطوة تهدف إلى تقديم بديل عربي عن المقترحات الأميركية والإسرائيلية التي تسعى لتصفية القضية الفلسطينية عبر مشاريع إعادة التوطين والهندسة الجيوسياسية للمنطقة. لكن هذه القمة، ورغم محاولاتها إرساء معادلة جديدة، لم تقدم رؤية عملية متكاملة تتضمن أدوات لحلٍ واقعي يضمن وقف الحرب أو التوصل إلى تسوية قابلة للتطبيق ويحافظ على الكيانية والكينونة الفلسطينية الواحدة، مما يفتح الباب أمام مزيدٍ من التعقيد والتصعيد الإسرائيلي.
- رؤية بلا أدوات تنفيذ
الخطة العربية التي تبنتها القمة تشمل مشاريع تنموية ضخمة تصل تكلفتها إلى 53 مليار دولار كما أعلن، مع إعادة إعمار القطاع دون تهجير سكانه، إضافةً إلى ترتيبات أمنية تشمل تدريب قوات فلسطينية تحت إشراف مصري وأردني. هذه الخطة تبدو محاولة لإنهاء الحرب بطريقة تحفظ ماء وجه الدول العربية، لكنها تتجاهل حقيقة أن غزة تخضع فعلياً لحكم الأمر الواقع، وأن أي حل بإقصاء هذا الشكل من الحكم دون توافق لن يكون قابلاً للتطبيق على الأرض.
- حماس وإسرائيل، حسابات الحرب والسلام
إسرائيل لا تزال مصرة على استكمال حربها من خلال "خطة الجحيم" التي أعلنوا عنها خاصة بعد إعادة الحصول على الأسلحة والذخائر المطلوبة من إدارة ترامب، لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في غزة، سواء عبر القضاء الكامل على البنية العسكرية لحماس، أو فرض ترتيبات جديدة تُحرمها من الحكم وتنهي فكرتها كما تعتقد. وفي المقابل، تدرك حماس أن القبول بأي اتفاق لا يضمن بقاءها في المشهد السياسي والأمني يعني نهايتها، لذلك تفضل استمرار المقاومة لتحسين شروطها، حتى لو كان ذلك على حساب المزيد من الدمار والخسائر البشرية التي يتسبب بها الاحتلال عبر عدوانه.
إذا لم يتم تنفيذ المراحل الثانية والثالثة من اتفاق وقف إطلاق النار، وخاصة ما يتعلق بانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلية وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، فإن ذلك سيؤدي إلى انهيار التفاهمات واستمرار القتال. إسرائيل ستستغل ذلك لمواصلة عملياتها وجرائمها، فيما ستعتبره حماس دافعاً لمزيد من الصمود والمقاومة.
- دعم غير مشروط لإسرائيل من الولايات المتحدة
الإدارة الأميركية، سواء في ظل بايدن أو ترامب، لم تمارس ضغطًا حقيقيًا على إسرائيل لوقف الحرب بل قدمت كل المطلوب عسكريًا ودبلوماسيًا من أجل استمرارها. بل إن عودة ترامب للبيت الأبيض تعني استمرار السياسة الأميركية المتشددة، حيث يدفع باتجاه مشاريع تهجير السكان الفلسطينيين، مع رفض أي صيغة تعيد السلطة الفلسطينية إلى غزة أو تمنح حماس دورًا في المرحلة القادمة. في هذا السياق، فإن الولايات المتحدة ستعمل على عرقلة أي خطة عربية لا تتماشى مع الرؤية الإسرائيلية - الأميركية وأهدافها، مما يضعف فرص نجاح الخطة المصرية باعتقادي.
- ماذا بعد القمة؟.
القمة العربية لم تنجح في فرض رؤية واضحة لإنهاء الحرب ووقف العدوان، بل اكتفت بإعلان بيان ختامي لن يغير الواقع العسكري أو السياسي في غزة ولا في الضفة الغربية، سوى بفرض ضغوطات تهدف إلى "التجديد" بواقع منظمة التحرير والذي قابله الرئيس محمود عباس بما أعلنه من عناوين في كلمته، وهي إجراءات لن تغير من واقع النظام السياسي الفلسطيني المضطرب منذ فترة والذي بات في حاجة ضرورية للشرعية الانتخابية والحاضنة الشعبية الواسعة والرؤية الوطنية الواضحة.
بدون آلية لتنفيذ الخطة وضمان مشاركة جميع الأطراف، ستظل غزة ساحة مواجهة مفتوحة، حيث ستستمر إسرائيل في هجماتها، وحماس في احتفاظها بالأسرى الإسرائيليين وقتالها حتى ولو على شكل كر وفر الذي هو شكل من أشكال حرب العصابات وبالامكانيات المتوفرة، بينما يبقى الفلسطينيون المدنيون من شعبنا الضحية الأولى لاستمرار هذا العدوان الإسرائيلي من جهة. وتصعيد سياسات الاستيطان والضم الإسرائيلي وهدم المخيمات في محاولة لإنهاء قضية اللاجئين، وتصفية القضية الوطنية التحررية من خلال تنفيذ مشروع "إسرائيل الكبرى" كأساس "للشرق الأوسط الجديد" من جهة أخرى.
وفي ظل هذه المعطيات، فإن مستقبل غزة لا يزال رهينة المعادلات العسكرية والتوازنات الإقليمية، وسط غياب أي إرادة دولية حقيقية لفرض حل عادل يضمن حقوق شعبنا الفلسطيني في كل الأراضي المحتلة من دولة فلسطين بإنهاء الاحتلال أولاً، وحمايته من مشاريع التهجير والإبادة المستمرة ومخططات تنفيذ مشروع إسرائيل الكبرى والرفض الإسرائيلي لنتائج هذه القمة، رغم عدم استنادها أو امتلاكها لإرادة سياسية لمواجهة إسرائيل والولايات المتحدة ولضمان حق شعبنا في تقرير المصير وإنهاء الظلم التاريخي الاستعماري عنه.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها