ألكسندر دوجين الروسي، فيلسوف ومفكر ومنظر مرحلة الرئيس فلاديمير بوتين، أجرى العديد من المقابلات مع عدد من الفضائيات العربية، كان آخرها مع قناة الغد الفضائية يوم الأحد 2 آذار/مارس الحالي، استوقفتني بعض النقاط في مقابلته، التي أصاب في العديد من الإجابة على بعض الأسئلة، وخاصة في السؤال الأول حول تشخيص الإبادة الجماعية على قطاع غزة خصوصًا وفلسطين عمومًا بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، والذريعة التي قدمتها حركة حماس لإسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهم من دول الغرب الرأسمالي. بيد أن جانب الصواب فيما ذهب إليه بشأن آفاق حرب الأرض المحروقة، عندما سئل عن مصير القطاع بعد وصول دونالد ترمب لسدة البيت الأبيض الأميركي.
رد قائلاً، إن ما يريده الرئيس الـ47، هو ما سيحدث، والسبب هو انعدام القوى الأخرى المؤثرة في تمثل دورها، وخاصة العالم العربي، الذي لن يحارب إسرائيل، وروسيا ستساند الفلسطينيين معنويًا، لكنها لن تتدخل عسكريًا، ولهذا فمصير فلسطين وغزة بيد الولايات المتحدة الأميركية. وهنا تجاهل المفكر الروسي تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الطويل، وفاته أن موازين القوى تاريخيًا كانت تميل لصالح إسرائيل وحلفائها في الغرب الرأسمالي بقيادة واشنطن دومًا، ومع ذلك واصل الشعب العربي الفلسطيني بدعم أشقائه العرب والقوى العالمية المؤيدة للسلام، والداعمة للحقوق السياسية والقانونية الفلسطينية على مدار قرن ويزيد قليلاً الدفاع عن حقوقه وثوابته الوطنية، وفشلت مشاريع التوطين وتصفية القضية الفلسطينية، التي بدأت بعد نكبة الـ48 مباشرة من قبل أميركا الشمالية، ولم تنتهِ حتى اللحظة المعاشة، رغم طرح عشرات المؤامرات لتبديد القضية والمشروع الوطني.

وكان الفضل دومًا لعدد من الأسباب والعوامل، منها: أولاً تمسك الشعب الفلسطيني بترابه الوطني، وتجذره في أراضيه ومدنه وقراه، وتمسكه بهويته الوطنية، والدفاع عنها بكافة أشكال النضال التي كفلها القانون الدولي للشعب الفلسطيني؛ ثانيًا رغم اختلال موازين القوى لصالح أعداء الشعب الفلسطيني، تمكن الشعب بفضل ثورته الوطنية المعاصرة، وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد من تحقيق الاعتراف بحقوقه السياسية والقانونية، وحصل على اعتراف 149 دولة بدولته الفلسطينية بعد إبرام اتفاقات أوسلو عام 1993 والإبادة الجماعية الحالية، التي ما زالت نذرها تحوم فوق رأس الشعب الفلسطيني، وتمكن من انتزاع ما يزيد على ألف قرار أممي من هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة، والمحاكم الدولية وخاصة محكمتي العدل الدولية والجنائية الدولية، وجميعها تؤكد حقه في تقرير مصيره على ترابه الوطني، وتطالب بانسحاب إسرائيل من كامل أراضي دولة فلسطين وعاصمتها القدس المحتلة بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967؛ ثالثًا ضمور وتراجع الرواية الإسرائيلية الصهيونية، وانكشاف وجه الدولة الإسرائيلية العدواني النازي، وانتفاء ما كانت تدعيه القيادات الإسرائيلية وحكوماتها المتعاقبة، بأنها "تدافع" عن حقها في الوجود، ولم تعد تلك الرواية الزائفة رصيد لها، وفي ذات الوقت، تبنى الرأي العام العالمي السردية الفلسطينية، وتعمق الدعم والإسناد للحقوق والأهداف الوطنية على المستويات العربية والإقليمية والدولية، مما أوقف معادلة الصراع على أقدامها، بعد أن كانت مقلوبة على رأسها، نتيجة زيّف الحملات الإعلامية والسياسية والديبلوماسية التي روجت لها الحركة الصهيونية وآلة الإعلام الغربي بشكل منهجي على مدار عقود الصراع الطويلة؛ رابعًا عودة أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بعد وقف الحرب في 19 كانون الثاني/يناير الماضي كشلال هادر إلى بيوتهم ومدنهم وقراهم ومخيماتهم، رغم معرفتهم بأنها مدمرة تمامًا أو شبه مدمرة نتاج الإبادة الجماعية التي دمرت نحو 90% من الوحدات السكنية، وتدمير البنى التحتية بغالبيتها الساحقة، وسحق معالم الحياة الآدمية بأبسط ملامحها، واستشهاد وجرح ما يربو على ربع مليون إنسان فلسطيني؛ خامسًا دعم الأشقاء العرب عمومًا وخاصة مصر والأردن والسعودية في رفض التهجير القسري للشعب العربي الفلسطيني من ترابه الوطني، وعقد عددًا من القمم العربية والإسلامية، وآخرها قمة القاهرة الطارئة أول أمس الثلاثاء 4 آذار/ مارس الحالي، التي شكلت رافعة لكفاح الشعب الفلسطيني في تحقيق أهدافه الوطنية، ووضعت مصر بالتعاون مع دولة فلسطين والعرب عمومًا خطة لإعادة الإعمار في قطاع غزة، فضلاً عن الـ18 بندًا الواردة في بيان القمة، التي جالت على مختلف مناحي المسألة الفلسطينية.

من المؤكد أن الأشقاء العرب لن يحاربوا إسرائيل، ولم يشهروا السلاح، وظلوا متمسكين بخيار السلام، وهذا ما تدعو له القيادة الفلسطينية لجملة من الأسباب الذاتية والموضوعية. وإن كانت الضرورة تملي على الأشقاء العرب استخدام أوراق القوة المتوفرة بأيديهم لإلزام إسرائيل والإدارة الأميركية الحالية باستحقاق وقف الحرب كليًا وبشكل دائم، وتأمين إدخال المساعدات الإنسانية بكافة عناوينها الغذائية والدوائية والإيوائية، والشروع بإعادة الإعمار، والانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع، ووقف العدوان في الضفة الفلسطينية، والذهاب للمؤتمر الدولي للسلام، وحماية دور ومكانة وكالة "الأونروا" في مواصلة عملها، ورفض القوانين الإسرائيلية الأميركية الهادفة لشطبها.

وباختصار تاريخ الصراع الطويل والمرير والعاصف، لم يثن الشعب عن مواصلة التخندق في التراب الوطني، والدفاع عن أهدافه الوطنية، ورفض ويرفض مؤامرة التهجير القسري والتطهير العرقي مهما كانت التضحيات، وأيًا كانت طبيعة موازين القوى المختلة لصالح إسرائيل وسادتها في الغرب بقيادة واشنطن، وبالتالي قرار أميركا وإدارتها ليس قدرًا، وكما واجه الشعب التحديات الأميركية الإسرائيلية، سيواجه التحدي الجديد. وأما أن أميركا هي صاحبة القول الفصل، وهي الممسكة بقرون الملف الفلسطيني، فهذا لا يعني شيئًا جديدًا في معادلة الصراع، لأن الولايات المتحدة وإداراتها المتعاقبة كانت دومًا القوة الدولية الممسكة بالملف الفلسطيني الإسرائيلي، وبالتالي جرعة ترمب الزائدة في عدوانيتها وصلفها لن يضيف عاملاً إضافيًا أو جديدًا للوحة الصراع. وبالتالي أجزم أن المفكر الروسي دوجين لم يصب كبد الحقيقة، ولم يقرأ لوحة الصراع جيدًا، مما أوقعه في قراءته غير الدقيقة والمجافية للحقيقة.