عندما استمع إلى كثير من المحللين المدنيين والعسكريين اليوم عبر بعض المحطات والقنوات الفضائية التي تتعاطى مع الوضع الفلسطيني واللبناني، حيث يأخذنا هذا الإعلام بعيدًا ليصادر منا العقل والفكر الذي وهبنا الله إياه، ويبين لنا أن الحالة العسكرية في الميدان تخالف الرؤيا وما تسوق له تلك القنوات الإعلامية لجهابذة المحليلين من مختلف المدارس والمناهج لكن تجمعهم رؤية ومنهج واحد ألا وهو منطق وسياسة تلك القنوات الإعلامية، وفي ذات الوقت أرى أن الواقع الميداني في الحرب لا يعكس التحاليل التي نسمعها منهم. فالواقع الميداني هنا يتحدث عن  تمدد الجيش الإسرائيلي في مختلف الجبهات إلى مناطق جديدة ما بعد السابع من أكتوبر. الجيش الإسرائيلي ترك آثارًا مؤلمة، وآلته العسكرية دمرت قطاع غزة وبيوتها على ساكنيها، ومؤسساتها، وبنيتها التحتية، ودمرت بلا هوادة مخيمات الضفة الغربية والبنية التحتية فيها، ودمرت جزء كبير من بيروت والجنوب.  

ويخرج علينا الإعلام ليقول أن الجيش الإسرائيلي لا يملك الكثير من الترف العسكري، وآخر يقول إن الذي لم يهدم بيته فليراجع إيمانه مع الله. الله أكبر ولله الحمد على ما أعطى وعلى ما أخذ. وتسمع تحليلات ما أنزل الله بها من سلطان. هل هكذا يكون الإعلام؟، هل هكذا تتم تعبئة الجماهير؟، إلى متى يتم اختطاف المواطن العربي، ويتم التحليق به إلى عالم الخيال والأوهام. 

نعم الإعلام جزء لا يتجزء من المعركة المصيرية مع العدو. فمن خلاله يتم تعبئة واستنهاض الجماهير من أجل المعارك المصيرية. لكن أن يختطف المواطن العربي إلى مربعات الوهم وفي النهاية تسقط أقدامه في وحل الهزيمة، كيف لهذا المواطن أن يعود إلى وعيه ويقاوم من أجل استرداد حقوقه. لقد قرأت وسمعت مرات ومرات من مؤسسات إعلامية، ومنصات التواصل الإعلامي والاجتماعي والسياسي، عن عملية إجبار العدو بإدخال المواد التموينية والخيم والكرفانات وتوقيع الاتفاقيات إلى قطاع غزة بكلمة ترددت كثيرًا من أفواه   البعض، "خاوة"، بمعنى أن العدو أُجبِرَ على التوقيع أو إدخال الشاحنات للمساعدات، وللأسف المعاناة تزداد.

 نحن بصدق نتمنى أن ينصاع العدو صاغرًا إلى ما يريده مجتمعنا الفلسطيني والعربي وتنتهي المعاناة التي أصابت الناس في هذه الحرب، وأن يرحل عنا وأن يتركنا وشأننا. لكن للأسف نصحو في اليوم التالي لنجد أن المعاناة تزداد وأن العدو ما زال في عناده، ويمنع الماء والدواء ويلاحق من يعتقد أنه مطلوب لديه ومعاوله تهدم وأدواته تقتل شعبًا أعزل. وهنا نفهم أن لا رفاهية تحت وطأة الاحتلال.

متى تنتهي عبارة "تجوع يا سمك" من القاموس العربي، وهي العبارة الشهيرة التي أطلقها الإعلامي المشهور عبر إذاعة صوت العرب أثناء خرب الأيام الستة في عام 1967، ويبدو أنها ما زالت إلى اليوم تعشعش في عقول الواهمين، ليصحو العرب على هزيمة نكراء أدت إلى خسارة عربية لمناطق جغرافية واسعة على الجبهات الثلاث. متى ينتهي أسلوب التضليل والوهم؟، فقد كانت هزيمة 1967 ضربة قاسمة وموجعة إلى الشعوب العربية، ومتى ينظر إلى الشعوب على أنها تفهم وأنها صاحبة نظر وبصيرة؟. وأن الرؤوس التي يحملها البشر قد زينها رب العزة بالعقل. أنا أعتب عمن وصل إلى درجة من الفهم وتزين بالألقاب أن يتحدث بالأوهام إلى الناس. فالمقاومة الفلسطينية في اللحظة التي فقدت ظهيرها العربي، تكون فقدت أهم مقوماتها، والانتقال بها إلى مراحل متقدمة لخوض الصراع هي مجازفة كبيرة، تتحدث عنها نتائج هذه الحرب التي ما زال الشعب الفلسطيني يدفع ثمنها غاليًا ودون رحمة. المقاومة الجزائرية نجحت لأن الرئيس عبد الناصر كان ظهيرًا لها في تحرير الجزائر، والمقاومة الفيتنامية نجحت لأن الاتحاد السوفياتي كان ظهيرًا لها في حرب التحرير. ولا يعني أننا إذا فقدنا الظهير والمساند، فستنتهي المقاومة، فالنضال لن ينتهي ولن يتوقف، وسيظل عنوان الشعوب المقهورة حتى تتحقق أهدافها، وينتهي الاحتلال وفق إمكانياتها وقدراتها. الميدان يخضع لحسابات وموازين قوى، بمقدار قوة الردع يرتفع ميزان الانتصار.

المقاومة الفلسطينية الشعبية منذ نشأتها كانت وما زالت متجددة ومن الممكن أن تتجدد طالما وجد الاحتلال وتأخذ أشكالاً متعددة كما كان الحال في انتفاضة الحجارة في عام 1987 أو انتفاضة النفق وغيرها، لقد كانت المقاومة الفلسطينية عنوان للشرفاء والمناضلين، وهي التي ذراعها امتد شرقًا وغربًا وأخذت موقعًا عالميًا في رمزية النضال العالمي بصورة الرئيس الراحل ياسر عرفات التي تزين مجسمات شخصيته الفذة ساحات عالمية، ولم يقل ياسر عرفات أن من لم يهدم بيته فاليراجع إيمانه مع الله؟. وهو الذي قرر الخروج من بيروت حفاظًا على أطفالها. لقد أسس عرفات النضال الفلسطيني، وابتعث الكوادر الثورية من الشباب الفلسطيني في الكليات العسكرية والثورية في الدول الصديقة والداعمة للحق الفلسطيني، أو في دعم الدول التي استثمر فيها الرئيس الراحل أبو عمار علاقاته الثورية كما هو الحال مع جنوب إفريقيا التي رفعت القضايا أمام المحاكم الدولية ضد ممارسات الاحتلال وحرب الإبادة التي ارتكبها  ضد الشعب الفلسطيني. وانظر إلى شعوب العالم التي خرجت إلى الشوارع تصدح " فيفا فلسطينا" لتصبح النشيد العالمي لحرية الشعوب ونضالها ضد الاحتلال.

هنا لا أريد أن أقلل من أهمية العمل المقاوم أبدًا، فذلك حقٌ كفلته الشرائع السماوية والدنيوية، لكن لكل مرحلة شكلها، ولونها يعتمد على عوامل كثيرة، أهمها أنها وطنية خالصة لا شرقية ولا غربية، تحيد بطش العدو على الشعب الأعزل. ولكن أريد أن يتم مخاطبة الوعي الفلسطيني والعربي بالحقائق التي تبنى الشعوب من خلالها على استراتيجيتها في السلم أو في الحرب، والمظاهر لا تحقق الانتصارات.