في عالم تحكمه مواقع التواصل الاجتماعي، لم تعد المآسي مجرد معاناة إنسانية، بل تحولت إلى "ترند" يجذب المشاهدات والتفاعل.
غزة التي ترزخ تحت وطأة الحصار والدمار المتكرر ليست استثناء من هذه الظاهرة، فبينما يعاني أهلها تداعيات الحروب المتكررة وانهيار البنية التحتية، تنتشر على منصات التواصل الاجتماعي روايات مضللة تصورهم على أنهم اعتادوا على العيش وسط الركام وكأنَّ الحياة بين الأنقاض أصبحت أمرًا طبيعيًا؛ هذا التضليل لا يقتصر على تشويه الحقيقة فحسب، بل يؤدي إلى نتائج كارثية أبرزها تأخير إعادة إعمار القطاع وفتح الباب أمام الهجرة الطوعية كخيار يائس للنجاة.
في كل عدوان تتعرض له غزة؛ تمتلئ منصات التواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو وصور تظهر أهاليها وهم يتحدّون الدمار، ويواصلون حياتهم رغم الفقر وانعدام أدنى مقومات الحياة فيها، تتكرر مشاهد الأطفال الذين يلعبون بين الأنقاض، والباعة الذين يعرضون بضائعهم أمام المباني المدمرة، سيدات يطهون الطعام بين بقايا مطابخهن، وعائلات تحاول إعادة ترتيب حياتها وسط الركام، ولهم في ذلك كل الحق للاستمرار بحياتهم.
لكن خلف هذا المشهد، تكمن رواية مضللة تُسوّق بشكل غير مباشر لفكرة أن الغزيين قد تعايشوا مع الدمار وأنهم قادرون على العيش في هذه الظروف دون الحاجة إلى تدخّل عاجل لإعادة الإعمار، هذا النوع من المحتوى رغم أنه قد يُنشر بحُسن نية، من الممكن أن يُستخدم من قبل جهات سياسية وإعلامية للتقليل من حجم الكارثة وإضعاف الضغط الدولي لإعادة بناء ما دمرته الحروب.
إن الترويج لفكرة "الحياة تستمر رغم الدمار" قد يبدو وكأنه يعكس صمود سكان غزة، لكنه في الواقع يوظّف كأداة لتبرير تباطؤ عمليات إعادة الإعمار، فالجهات المانحة والمجتمع الدولي قد لا تشعر بإلحاج الأزمة عندما تبدو غزة وكأنها "تتكيف" مع الظروف القاسية، وبدلاً من التركيز على الحلول الفعلية يتم تبرير التأخير في إعادة البناء بحجج واهية مثل التعقيدات السياسية أو غياب الضغوط الكافية.
إضافةً إلى ذلك، فإن التضليل الإعلامي في هذا السياق يؤدي إلى خفض سقف الطموحات، حيث يصبح الهدف مجرد تأقلم الناس مع الواقع المرير بدلاً من المطالبة بحياة كريمة تليق بالبشر كأدنى حق من حقوق الإنسان. وهنا يتحول الحديث عن مشاريع إعادة الإعمار إلى وعود فارغة تتكرر بعد كل حرب دون تنفيذ فعلي على الأرض.
ومع استمرار الدمار وتأخر الإعمار، يصبح الخروج من غزة حلمًا للكثير من الشباب والعائلات التي فقدت الأمل في تحسين أوضاعها، وفي ظل ضيق الأفق الاقتصادي وانهيار الخدمات الأساسية باتت الهجرة الطوعية مخرجًا قسريا وليس خيارًا حقيقيًا.
ولمواجهة هذا الواقع، يبقى التحدي الأكبر هو كشف التضليل الإعلامي وإعادة توجيه الخطاب نحو المطالبة بحقوق أساسية على رأسها إعادة إعمار غزة ومنح أهلها الحياة الكريمة التي يستحقونها، عبر إنتاج محتوى رقمي يوضح حجم الكارثة بدلاً من التركيز فقط على جوانب الصمود، وفضح محاولات التقليل من أهمية إعادة الإعمار وتعزيز الضغط الدولي من خلال حملات إعلامية تستهدف الرأي العام العالمي وصنّاع القرار.
ختامًا؛ إن معاناة غزة ليست مشهدًا سنيمائيًا أو محتوى رقميًا لجذب التفاعل على منصات التواصل الاجتماعي، بل هي أزمة إنسانية تتطلب تحركًا جادًا لإنهائها، وتحويل هذه المأساة إلى "ترند" لا يُساعد أهل غزة بل يساهم في إطالة أمد نكبتهم، وتأخير إعمار مدينتهم ودفع شبابها نحو الهجرة القسرية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها