تسليط سيف العقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، نراه أخطر من محاولة إخضاع واحتواء، لأعلى وأهم سلطة قضائية في العالم، فهذه قد تكون مقدمات لما ستشهده منطقتنا ومركزها فلسطين، من أهوال جرائم حرب ضد الإنسانية، ولا نستبعد أن تكون أحد اتجاهات مخطط خطير، لتقييد ضمائر قضاتها، ومدعيها المكلفين بتحقيق العدالة للمظلومين في العالم، قبل الإقدام على تنفيذ خطة جريمة التهجير القسري لملايين المواطنين من الشعب الفلسطيني من قطاع غزة. وهنا لابد من ربط هذه العقوبات، مع احتقار منظومة الاحتلال الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية الإسرائيلية، للمنظمة الأممية (الجمعية العامة للأمم المتحدة) ومنظماتها المنبثقة عنها، وتحديدًا المحكمة الجنائية، ومحكمة العدل الدولية، ومجلس حقوق الإنسان، الذي قرر الرئيس الأميركي دونالد ترمب الانسحاب منه قبل أيام وتبعته حكومة منظومة الاحتلال (إسرائيل) التي استبقت ترمب بقوانين تحظر عمل الوكالة في فلسطين، قبل إصدار أمر تنفيذي بالانسحاب منها وإيقاف الدعم المالي.
لا تتخذ هذه السياسات القرارات جزافًا، وإنما تؤخذ كضربات استباقية، تمهد لحملات عسكرية دموية مدمرة، كحملة الإبادة التي نشهد ذروتها في قطاع غزة، وفي مدن ومخيمات في الضفة الفلسطينية، فالقوانين العنصرية مثل "قانون القومية" والقوانين ذات الصلة بتهويد القدس، والقانون الذي صدر في 18 تموز الماضي، ونص على رفض قيام دولة فلسطينية غرب نهر الأردن، حتى قانون حظر رفع العلم الفلسطيني، وضع لمنع مظاهر الانتماء الوطني لملايين الفلسطينيين الصامدين في مدن وبلدات وقرى فلسطين منذ ما قبل وبعد سنة 1948. فهذه القوانين والقرارات الصادرة عن دولة قائمة بالاحتلال، والمتعلقة أساسًا بحقوق الشعب الفلسطيني، ومنها حق تقرير مصيره، وتجسيد الاستقلال بدولة مستقلة ذات سيادة، ستبقى بنظرنا ونظر الشرعية الدولية مجرد ركام، يتم تجميعه على شكل قوانين، وعمل تحصينات داخلية ضمن نطاق المنظومة، لحماية مراكز قراراتها الخاصة بالحروب، والجرائم ضد الإنسانية، فالقوانين المتعارضة مع القوانين الدولية تبقى، خارج نطاق الشرعية الدولية السياسية والإنسانية، مهما حاولت الدولة القائمة بالاحتلال (إسرائيل) تكريسها كأمر واقع، مادام للحق الفلسطيني، شعب يجسده حقيقة كونية، كالشمس، لا يمكن لقوة في العالم حجب نورها، عن عقول وضمائر الناس في الدنيا. ووفقًا لهذه الحقيقة، اتخذ رئيس الشعب الفلسطيني، وقائد حركة تحرره الوطنية، أبو مازن قرار الهجوم الاستباقي، كبرهان على امتلاك الشعب الفلسطيني، والأحرار في العالم أوراق قوة مؤثرة، وقادرة على كبح جماح القوة المادية والعسكرية على الأقل، إن لم يكن تعطيلها، ونعتقد أن التراجع الملحوظ في تصريحات ترمب، والتفسيرات المخففة التي حاول أركان إدارته تسويقها للعالم، بشأن خطة التهجير القسري لمواطني قطاع غزة، لم تحدث إلا اعتبارًا لسابقة فلسطينية، فدولة فلسطين التي استطاعت انتزاع قرار من المحكمة الجنائية، بإصدار مذكرة جلب بحق رئيس حكومة منظومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير جيشه السابق يوآف غالانت، بعد ثبوت تهمة ارتكاب جريمة إبادة جماعية، وجرائم حرب في قطاع غزة، هي ذاتها دولة فلسطين القادرة اليوم وغدًا، على ملاحقة منفذي خطة (التهجير القسري) وفقًا لأحكام القانون الدولي، الذي التزمت به دولة فلسطين عندما وقعت على الاتفاقيات المتعلقة للمنظمات الدولية، وعلى رأسها المحكمة الجنائية، فالتطهير العرقي (التهجير القسري) جريمة حرب وفقًا للقانون الدولي.
ونعتقد أن ترامب ونتنياهو تلمسا فعلاً عواقبها الخطيرة، وتداعياتها، بعد موقف واضح ودقيق صدر عن الرئاسة الفلسطينية، وأعلنه الناطق باسمها نبيل أبو ردينة:"إن فلسطين بأرضها وتاريخها ومقدساتها ليست للبيع، وهي ليست مشروعاً استثمارياً، وحقوق الشعب الفلسطيني غير قابلة للتفاوض وليست ورقة مساومة". علمًا أن الرئاسة الفلسطينية، قد واجهت (صفقة ترمب) السابقة، وأفشلتها بذات الموقف. أما اليوم، فإن الموقف الفلسطيني مرتكز على موقف عربي، مساند ومدرك لمخاطر خطة التهجير، وما يكمن فيها من تغييرات سكانية وجغرافية حدودية وسياسية، وتكريسها (بالأمر الواقع) في مصر والأردن، وعلى مواقف رسمية من دول العالم، الحلفاء للولايات المتحدة قبل خصومها، لإدراكها المسؤولية التاريخية الجسيمة التي ستتحملها إن صمتت أو غفلت عن أفظع جريمة حرب وضد الإنسانية في زمن القوانين والشرائع والمواثيق الدولية. لذا سارع أركان الإدارة الأميركية، حكومة الاحتلال (إسرائيل) للحديث عن هجرة طوعية، وهذا ما كنا قد وضعناه في قائمة أهداف منظومة الاحتلال منذ أن منحتها حماس الذريعة للإبادة في 7 أكتوبر، وعندما رأينا في الأفق، أبعاد نصب الرصيف البحري العسكري الأميركي على شاطئ شمال القطاع، الذي قد يتم إعادة إنشائه بعد التجربة السابقة، لتنفيذ التهجير القسري، بالتوازي مع فتح مطار رامون في صحراء النقب، وميناء أسدود، أما الخطر الأكبر الذي ساهمت حماس في جعله كابوسًا يهدد مستقبل الإنسان الفلسطيني على أرض وطنه، فهو مساهمتها كفرع لجماعة الإخوان المسلمين، لا تؤمن بمبدأ وفكرة الوطن، مساهمتها في تهجير فكرة الوطن من عقل وقلب المواطن الفلسطيني، وهنا التقط ساسة وجنرالات منظومة الاحتلال نقطة الضعف، فكانت الإبادة والتدمير، ليس لتفريغ القطاع من ملايين الفلسطينيين وحسب، بل واغتيال فكرة ومبدأ وثبات الانتماء للوطن، وتهجير فكرة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس إلى غير رجعة، لكننا على عهد مقدس مع الوطن.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها