على أهمية الإيديولوجيا للأحزاب والقوى السياسية كنظام لبرامجها السياسية والاقتصادية الاجتماعية والثقافية، وهي خارج دائرة الحكم، أي في المعارضة، تتراجع مكانتها أثناء تولي الحكم. لأن المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية تحتل الأولوية، على حساب الإيديولوجيا. كونها تقود نظامًا سياسيًا هدفه خدمة مصالح الشعب بكل طبقاته وفئاته وشرائحه الاجتماعية وأحزابه وقواه الموجودة والفاعلة في الساحة، ويعود انحسار النظريات الفكرية الفلسفية للواقع الجديد الذي لا يقتصر على الواقع الحزبي الضيق، إنما يتجاوزه ارتباطًا بالتحول النوعي الناجم عن قيادة الشعب بكل مكوناته، وهو ما يملي على الحزب الحاكم تدوير زوايا رؤيته الفكرية بما ينسجم مع مصالح الشعب والنظام والدولة.
وإن كان هناك حيز للإيديولوجيا، فإنها تبقى في النطاق الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، لكن في الأبعاد السياسية تقريبًا تنفصل أو تفترق الإيديولوجيا عن السياسة. لأن مصالح الأنظمة والدول تحتم عليها التعامل مع مختلف الدول والنظم السياسية الإقليمية والدولية بمختلف تلاوينهم ومعتقداتهم وخلفياتهم الفكرية، وحتى في النطاق الوطني والقومي تفرض الضرورة التعاطي المرن مع أصحاب التوجهات المختلفة بما يخدم المصالح العليا للشعب، وتعزيز السلم الأهلي، وحماية النظام السياسي من التصدع والانقسامات الحادة وتداعياتها الخطيرة.

وارتباطًا بما تقدم، فإن قيادة الشعب الفلسطيني المحكومة بالرؤية الوطنية التحررية، وإنجاز الاستقلال الوطني من ربقة الاستعمار الإجلائي الاحلالي الصهيوني، وتحقيق التنمية المستدامة للنهوض بمصالح الشعب العربي الفلسطيني، تعاملت مع مكونات الشعب الفكرية والسياسية بمختلف توجهاتها ومعتقداتها تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد، حتى حركة حماس الإخوانية، المنقلبة على الشرعية، والتي تعتمد رؤية متناقضة مع المشروع الوطني والنظام السياسي الفلسطيني التعددي، تعاملت معها، وتحرص على التعامل معها لتوطينها في دائرة المشروع الوطني، وإبعادها نسبيًا عن جماعة الإخوان المسلمين، التنظيم الدولي الشمولي، والمرتبط بأجندة الغرب الرأسمالي تاريخيًا، حرصًا منها على إبعاد شبح الفتنة والحروب الأهلية والانقلاب وخيار الإمارة في جزء من الوطن الفلسطيني. رغم كل المصائب والويلات التي أصابت الشعب نتاج سياساتها الخطيرة والمدمرة.
وعلى الصعيد العربي والإسلامي والدولي فتحت منظمة التحرير الأبواب المغلقة مع الدول، ولم تخضع لابتزاز الإيديولوجيا، أو الرؤى المتصادمة مع المشروع الوطني الفلسطيني، والمنحازة لدولة الأبرتهايد والتطهير العرقي الإسرائيلية ونسجت علاقات معها، في محاولة لتحييدها، أو تخفيف حدة عدائها لاستقلال وتقرير مصير الشعب الفلسطيني وعودته لوطنه الأم بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، ليس هذا فحسب، إنما وقعت اتفاق أوسلو مع دولة الاحتلال الإسرائيلي في البيت الأبيض الأميركي، والهدف كما أشرت حرصها على تأمين أكبر وأوسع قاعدة تأييد لصناعة السلام الممكن والمقبول، وتحقيق الأهداف والثوابت الوطنية. ورغم الإبادة الجماعية المتواصلة للشهر الخامس عشر، فإن القيادة الفلسطينية تحرص على التواصل مع الجميع لوقف حرب الأرض المحروقة، وحماية الشعب من اهوال الفاجعة الكارثية التي أصابته منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 حتى اليوم 446 من الحرب الجهنمية. 

ومع أن هناك تباينات وتناقضات مع العديد من الدول الشقيقة والصديقة وغير الصديقة، إلا أن منظمة التحرير لم تغلق بابًا مع مختلف الدول، وإن حصل افتراق نسبي لزمن محدد، فإنها تعمل دون تردد على كسر حدة الجفاء والتباعد لإعادة العلاقات إلى مجراها الطبيعي، حرصًا على كسب ودعم تلك الدول، وحماية مصالح الشعب العليا.
ويتضاعف حرص القيادة الفلسطينية على العلاقات مع الدول الشقيقة لأكثر من اعتبار، أولاً بحكم أن العلاقات القومية ومع الشعوب العربية لها الأولوية على ما عداها. لأنها تمثل البعد الاستراتيجي بحكم التداخل العميق بين المسألتين الوطنية والقومية؛ ثانيًا تزداد الروابط بين قيادة المنظمة والدول العربية الحاضنة لمئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، لحماية مكانتهم ومصالحهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية ووجودهم لحين تأمين عودتهم لوطنهم الأم؛ ثالثًا الدول العربية المحيطة بفلسطين لها مكانة خاصة في معادلة الصراع مع العدو، وبحكم التداخل والشراكة الموضوعية في المصالح الوطنية والقومية، وللتأثير المتبادل فيما بينها وبين الدول الشقيقة، بغض النظر عن طبيعة الأنظمة وتوجهاتها السياسية؛ رابعًا الأمن القومي العربي السياسي والاقتصادي والأمني والثقافي والإعلامي والبيئي يملي على القيادة الفلسطينية تعزيز الروابط الأخوية مع الدول العربية دون استثناء.
وفي معادلة الإيديولوجيا والسياسة الفلسطينية العربية، تضمحل الإيديولوجيا والحسابات الضيقة للنظام الفلسطيني لصالح السياسة، وحماية المصالح الوطنية، وتعزيز الشراكات معها وفقًا للمصالح الوطنية الأهم، وتبقى التصنيفات، والحسابات الذاتية محصورة في النطاق الوطني الخاص والضيق. وهذا هو الناظم الذي يحكم بوصلة العمل السياسي الفلسطيني.