الحاجز العسكري الاحتلالي الذي يقطع الطريق على الفلسطينيين ليس مجرد إجراء أمني، بل هو أعمق وأبعد من ذلك بكثير، إن هندسة هذه الحواجز وأنواعها وأشكالها والبنى التحتية المحيطة بها والمرافقة لها وما يتم خلالها وفيها، إنما تعمل على انتهاك حياة الفلسطينيين وسلب أرزاقهم ووقتهم وطريقة عيشهم ونسيج حياتهم، يقوم الحاجز الاحتلالي بإعادة تشكيل المكان وتغيير الفضاء العام وتحطيم التطور الطبيعي للنمو والتمدد، الحاجز بهذا المفهوم يقوم بعملية عقاب جماعية من خلال التمزيق والتفريق وتجفيف التواصل ومنع العلاقة الطبيعية بين الإنسان وبيئته الحاضنة، هناك في الضفة المحتلة ما يزيد على ألف حاجز دائم وطيار استطاعت بمجموعها أن تحول الحياة إلى جحيم حقيقي.

ولأن الحاجز ليس حصاراً بالمعنى الحرفي إلا أنه يقوم بما لا يستطيع الحصار أن يقوم به، فالحاجز كما يطرحه المحتل الإسرائيلي علينا ويجربه فينا إنما يجعلنا نتكيف مع الأوضاع المفروضة علينا ويجبرنا على البحث عن بدائل مختلفة وتخفيض السقوف والاكتفاء بالبديل الهزيل والصعب، ويحولنا إلى متسابقين على الفرص والفتات.

الحاجز هو شكل الاحتلال الناعم الذي يذكرك دائماً بأن هناك احتلالاً، وأنه من الممكن أن يغير حياتك في كل لحظة، بحيث تتحول الطريق المفتوحة إلى نعمة كبرى، وأن المرور من بوابة أو حاجز إلكتروني أو ترابي هو الفوز بالجنة، الحاجز الناعم هذا يتحول بسرعة إلى جحيم فعلي إذا أراد الجندي أن يسرق يومك أو حياتك منك دون أدنى تفكير أو مراجعة أو حساب للنفس أو إحساس بالذنب أو خوف من العقاب، هو يعرف وأنت تعرف أن هذا الحاجز ليس لاستجلاب الأمن أبداً، فقد رأى العالم كله أن المحتل يقصف السيارات في أعماق المدن، فالجندي يعرف وأنت تعرف أن هذا الحاجز وضع للعقاب والتعذيب والتخريب والانتقام، الجندي يعرف وأنت تعرف أن هذا الإجراء لا إنساني، فهو ينتقم من المرضى والنساء الحوامل والأطفال، ويُسعر في القلب مشاعر الغضب والاحتقان الذي ينفجر بين حين وآخر.

ويتفنن المحتل بأشكال الحواجز وأنواعها، فهناك الترابية التي تقطع الطريق بالكامل، وهناك المكعبات التي تسيطر على السرعة وتتحكم بالداخل والخارج، وهناك البوابات الصفراء الحديدية التي تفتح وتغلق حسب منطق لا يعلمه إلا الله والجنرال الإسرائيلي العالم بكل شيء، وهناك الحواجز الإلكترونية، وفيها أكشاك يوجد فيها جنود على الأرض، أسنان حديدية تمزق من يخرق ما يسمى القانون، ويحيط بكل ذلك سيارات عسكرية وجنود متناثرون في الزوايا الأربع، وهناك حواجز تحولت إلى معابر تفصل بين أراضٍ محتلة وأخرى محتلة، لا فرق بينهما إلا في تاريخ الاحتلال، ما يجعل هذه الحواجز أو المعابر عنصرية بامتياز، وبمناسبة العنصرية، فإن إسرائيل تفرق بين الطرق والشوارع، فهناك شوارع للفلسطينيين فقيرة ومحطمة وبدون أضواء وبدون إشارات وبدون أرصفة ولا يمكن للمستوطنين المرور بها حسب لافتة مرفوعة أول الطريق تحذرهم من أن الدخول خطر - هكذا بالضبط- فيما الطرق للمستوطنين مضاءة ومعبدة وواسعة، وكلها إشارات ولافتات مكتوبة بالعبرية الفصيحة في محاولة مكشوفة للتغريب، وهي طرق بعضها ممنوع على الفلسطينيين المرور فيها على الإطلاق، يعتقد المحتل أن تفريغ المكان هو تفريغ للوعي بالهوية، ولهذا تعمل هندسة الطرق الاستعمارية على تغريب المكان لطرد أهله وقطع صلتهم به.

لهذا، فإن الطرق والحواجز بأنواعها واتجاهاتها وبُناها التحتية تحولت إلى أسلحة استعمارية فاعلة من أجل تعميق الاستيطان وتوسيعه وتسهيل تطوره، ومن أجل التضييق على الفلسطيني وسلبه أرضه وثرواته ودفعه إلى الهجرة، إنْ آجلاً أو عاجلاً.

إن كل شخص يسافر في شوارع الضفة الغربية المحتلة وطرقها الرئيسية والفرعية سيصعق عندما يرى سرعة البناء الاستيطاني وشبكة الطرق المسيطرة وعدد الحواجز وأنواعها التي تحول كل شعب مهما كان قوياً وغنياً إلى شعب فقير لا يستطيع أن يمارس حياته على الإطلاق. سيدهش هذا المسافر عندما يرى أن البناء الاستيطاني يسيطر على التلال وسفوح الجبال و منابع الثروات ومحاور الطرق، وأن الحواجز تقطع الأوصال وتنتهك الخصوصية والنسيج وحتى المستقبل.

وفي هذا السياق، فإن الحاجز مهما كان نوعه وشكله لا يقل خطورة عن البناء الاستيطاني، فهو يكمله وينجز مهمته ويسهل وجوده ويطيل بقاءه.