يا إلهي، من يصدق أن كل هذا العجز ظاهر وجلي ومخجل وغير أخلاقي ولا إنساني ووحشي إلى حدٍّ مخيف، ودموي إلى حد الفاجعة، وراعب إلى حد البكاء وقلة الحيلة، وسريالي إلى حد فاق ويفوق الخيال والمجاز، وهو يبدو عيانًا في قطاع غزة، في البلدات والمدن والمخيمات وأماكن اللجوء الجديدة.

كل أهل غزة، أكثر من 2.5 مليون إنسان بلا مأوى، لأن بيوتهم دمرت، وما عادت صالحة للسكن أو الإيواء، والمقابر التي دفن الشهداء فيها على عجل، وبعضها مقابر خندقية، أي جماعية، انكشفت تربتها، بسبب الأمطار والرياح، عن جثثها التي تراكم بعضها فوق بعضها الآخر، وهي الآن تبحث عن من يسترها، والخيام التي وصلت إلى قطاع غزة، وعددها يفوق نصف مليون خيمة، طارت، وتلفت، وسحبتها أمواج بحر غزة إلى داخله، وما عادت قادرة على إيواء الأهالي الذين لجؤوا إليها، حرارة الصيف الماضي أتلفت وحرقت قطع النايلون، وقطع القماش التي كونت تلك الخيام، والآن أمطار الشتاء تكمل المهمة في تمزيقها وإتلافها، والرياح الهوج تساعدها فتطير بما تبقى من قطع النايلون والقماش والخيش، فبدت العائلات الفلسطينية سابحة في مياه الأمطار مثل السمك، وبدت العائلات مبتلة راجفة خائفة داعية شاكية من أن الحمل الثقيل أرهقها، وأن ما يحدث لا يحدث عادة في الغابات، ولا في المواجهات والحروب، ما يحدث هو إبادة للناس، وتدمير شامل لكل ما تبقى من الخيام بعدما دُمرت البيوت وسويت بالأرض.

والمؤلم والموجع أيضًا أنه يوجد أكثر من نصف مليون خيمة محملة فوق سيارات الشحن تنتظر الدخول إلى قطاع غزة من أجل إغاثة الناس وإيوائهم، لكن قوات الاحتلال الإسرائيلي تحول بينهم وبين هذه الخيام والدخول إلى أمكنة اللجوء.

آلاف سيارات الشحن الكبيرة تقف بانتظار إشارة الدخول إلى القطاع وهي تحمل مواد الإغاثة من أدوية وأطعمة وأغطية وفرش وأواني ومواد خاصة بالنظافة، لكن هذه الإشارة المخولة لهذه السيارات بالدخول لا تأتي لأن قوات الاحتلال الإسرائيلي لا تسمح لها بالعبور.

والأدهى هو أن بعض السيارات التي يسمح لها بالعبور، هي سيارات بضاعتها مباعة للصوص، تجار الحروب الذين يبيعونها لاحقًا للتجار الذين يتحكمون بأسعارها المرتفعة جدًا، وبنسبة 1000%.

المشاهد التي نراها عبر شاشات التلفزة راعبة ومخيفة ولا إنسانية، مشاهد لا علاقة لها بالقانون الدولي، ولا بأعراف الحروب ومقتضياتها، إنها مشاهد مشبعة بالإجرام والوحشية، مشاهد لا علاقة لها بأهداف تسعى لها العقول، إنها مشاهد صنعتها العنصرية، والقوة العمياء، والغطرسة المتهورة، وأحقاد الشر الأسود؛ مشاهد تبدي لنا الكبار من الفلسطينيين يعتصرون البطانيات والوسائد والفرش لتخليصها من مياه الأمطار والوحول التي طالتها، وتبدي لنا النساء وهن ينضحن المياه ويخرجنها من داخل ما تبقى من الخيام، وتبدي لنا الأطفال وهم يرتجفون بردًا بوجوه ازرقت واسودت، وبأقدام حافية من الصعب تحديد لونها، مشاهد تبدي العجز، والحيرة، وخيبة الأمل من يد قد تمد المساعدة إليهم.

نعم، إنها مشاهد ناجية من أي محاسبة، ومن أي عقاب، ومن أي مساءلة من أي جهة إقليمية أو عالمية، إنها مشاهد للفرجة تذكرنا بما فعله أصحاب القوة والسطوة بالآخرين خلال استعراض سريع لتاريخ الضحايا البشرية، والمجازر التي طالتهم.

نعم، لقد ظننا أن العالم تغير، وأن المسافة بين دول الجنوب والشمال ضاقت، وأن تطبيق القانون الدولي صار حقيقة وواقعًا، وأن الأعراف والتصورات الإنسانية والقيم والأخلاقيات باتت مغناة الشعوب، وباتت سلوكيات بادية، وصارت سيرورة عامة للحياة والتعامل، ولكن ما نراه من مشاهد آتية من قطاع غزة، من الشمال إلى الجنوب، تقول غير هذا، وبكل الوضوح، وبكل المأساوية والظلم، فالمجازر الإسرائيلية متكررة يوميًا وبدوافع شائنة، تلاحق الفلسطينيين في كل الأمكنة وبالسلاح الغربي الذكي جدًا الذي يستخدمه الإسرائيليون والمرتزقة الذين جندوهم أيضًا كي يقتلوا الفلسطينيين، صغارًا وكبارًا، بالبراعة التامة.

نعم، ظننا أننا وعينا معنى الحياة، والحقوق والحريات، وعرفنا ما نقصده بالسيادة والسلام والأخلاق، والنبل والحق، والخير والجمال. لكن ما نراه في غزة مهول ووحشي، والعالم كله يتفرج على الدم الذي طال كل عزيز، ويتفرج على المقابر وهي تمتلئ وتكتظ بالأطفال والنساء والشيوخ، ويتفرج على المدارس والمشافي والبيوت وهي تدمر، والحقول والمزارع وورش الصناعة وهي تباد، ووجوه الحياة وهي تحرق و تسود أكثر فأكثر، وأن العالم، وبعد مرور هذا الوقت الحارق والموجع والأليم لا يفعل شيئًا سوى الفرجة التي فيها كل الخزي والبشاعة لعالم استكان للقوة العمياء وانحنى وانصاع حتى استدار استدارة كاملة عن الحق والعدل، وأيد الباطل والجور.

نعم، ها هي مرآة المحرقة الفلسطينية بنارها ودخانها وأنات أهلها، بادية وجهيرة بكل ظلموتها الراعب، والعالم يعيش، منذ 76 سنة في لا مبالاة.. كلها عبث وزيف.