كان ولا يزال شعبنا الفلسطيني في غزة يرزخ تحت احتلال استيطاني عنصري يسعى لطرده من أرضه وإزالته من التاريخ والجغرافيا. هذا الاحتلال لم يخفِ أهدافه الاستعمارية منذ احتلال فلسطين في نكبة 1948، بل عمل بلا كللٍ لتقويض بنى الحياة الفلسطينية ولتعزيز مشروعه الاستيطاني الاحلالي. ومنذ أحداث السابع من أكتوبر، تمادى الاحتلال في حربه ضد الشعب الأعزل في غزة، حيث استغلّ ما جرى كذريعة لحشد الدعم الأميركي والغربي لإطلاق حملة إبادة جماعية تستهدف المدنيين بشكلٍ لا أخلاقي ولا إنساني.
لقد شهدت غزة ولا زالت إبادة مروّعة ومستمرة على مرأى ومسمع العالم، دون أي احترام للقوانين الدولية أو للقيم الإنسانية، فلقد كان ولا زال عدوانًا يفوق القدرة على الوصف والتصور، استخدم فيه الاحتلال ترسانته العسكرية الأكبر والأضخم في المنطقة ضد المدنيين مرتكبًا المجازر البشعة ومخلفًا الشهداء والجرحى بالآلاف، ودافعًا الناس إلى النزوح القسري من بيوتهم تحت التهديد بالقتل والإبادة، مما أدخل المجتمع الغزي بكافة مكوناته في حالة من الصدمة، ساهمت بشكل أو بآخر في عدم القدرة على ضبط الجبهة الداخلية التي واجهت ولا زالت انهيارًا غير متوقع مع انتشار مظاهر الجشع والاستغلال وعمليات السطو والعربدة مع غياب النظام وأدوات انفاذ القانون.
إلا أن مسؤوليتنا نحن، كمجتمع فلسطيني، قوى ومؤسسات، تفرض علينا عدم البقاء في دائرة الصدمة. بل يتوجب علينا التحرك بسرعة لنتجاوزها ونفهم جيداً أنّ العدو لا يستهدف فقط البشر والحجر في غزة، بل يسعى كذلك إلى تدمير نسيجنا الاجتماعي وإضعاف جبهتنا الداخلية، وهو ما يفرض مسؤوليات كبرى على قوى المجتمع الفاعلة.
من المؤسف القول أن المجتمع الغزي، بكافة أطيافه ومؤسساته، ما زال حتى الآن في حالة من الصدمة والجمود، وكأن الأحداث المفجعة أغلقت كل قنوات التفاعل والتنظيم. لا يمكن إنكار عمق المصيبة، ولكن لا يجوز أيضاً أن نترك المجتمع للانهيار الداخلي، مما يزيد من فرص العدو لاستكمال مخططاته ضد الشعب الفلسطيني. فمن المهم أن ندرك أن حالة العجز الحالية تعزز من ضعف الجبهة الداخلية، وتفتح الباب أمام مشاكل عدة كالتفكك الاجتماعي والفراغ التنظيمي، مما يعرّض المجتمع لمزيد من الاستغلال والاستنزاف، ولفرص أكبر لفرض أنظمة لإدارة غزة لا تلبي التطلعات السياسية لشعبنا ولا تستثمر الحجم الهائل من التضحيات التي قدمها ولا يزال شعبنا في هذه الحرب لتحقيق أهدافه في الحرية والاستقلال.
ومع الحديث عن مرحلة اليوم التالي للحرب، والسعي لفرض صيغ مختلفة لإدارة قطاع غزة بعيدًا عن الشرعية الفلسطينية ممثلة بالسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، فإن قطع الطريق أمام كل المخططات والمؤامرات لفرض واقع في غزة يؤكد فصلها عن الجسم الفلسطيني وتكون مدخلاً لتصفية القضية الفلسطينية برمتها، وهذا يستوجب تفعيل كافة الفعاليات الوطنية وتوجيهها نحو تعزيز الصمود الفلسطيني، وذلك عبر جهود منظمة لإدارة الأزمة وتخفيف آثارها على المجتمع الغزي، وإعادة فرض النظام بوجه وأدوات فلسطينية، وهنا تبرز الحاجة لتأسيس هيئة وطنية جامعة تجمع كافة القوى الفلسطينية تحت إطار منظمة التحرير الفلسطينية وبدعم كامل منها. تلتف الجماهير حولها لتعمل على تنظيم القطاعات الخدماتية بالتعاون مع الحكومة الفلسطينية الشرعية والمؤسسات الدولية الفاعلة، بما يعزز صمود الشعب ويدعم بقاءه في أرضه.
إن هذا يوجب على جميع القوى الوطنية، المؤمنين والمخلصين بنفض أي حسابات حزبية خاصة، وأن يتحركوا فوراً باستحضار تجربة الانتفاضة الفلسطينية المباركة عام 1987 بتشكيل لجان شعبية في كل حي ومركز إيواء ومخيم للنازحين، بهدف وقف الاستغلال ومنع العربدة فإن تنظيم المجتمع ومواجهة التحديات الداخلية تتطلب منع الفوضى وملاحقة العصابات المنظمة التي تستغل الظروف الراهنة لنهب موارد الشعب المنهك.
كما يقع على عاتق هذه الهيئة التنسيق مع المؤسسات الدولية من أجل تسهيل حركة الإغاثة، والتعاون مع المؤسسات الدولية لتوفير احتياجات المواطنين ودعمهم في مواجهة الصعوبات.
وكذلك تنظيم حركة الأسواق ومتابعتها متابعة دقيقة، ومنع الاستغلال الذي قد يتسبب في تدهور الوضع المعيشي.
ينبغي علينا أن نعي أن شعبنا في غزة، ورغم الظروف الصعبة، قادر على الصمود إذا ما توفرت له سبل الدعم المناسبة. إن خلق حالة منظمة داخل المجتمع ليس ترفاً بل هو ضرورة ملحة يوجب على الجميع التوحد في إطار وطني موحد، لتوحيد الجهود في تقديم الخدمات الأساسية، ويقطع الطريق أمام أي محاولات أو مؤامرات لفرض واقع جديد على الشعب الفلسطيني لا يخدم مشروعنا الوطني في الانعتاق من الاحتلال وإقامة دولتنا المستقلة.
إن غزة اليوم ليست فقط ساحة للمعركة، بل هي أيضاً ميدان لصمودنا كشعب فلسطيني في وجه مشروع صهيوني يسعى لاستئصالنا من الجذور. ومن هنا، فإن الحديث عن اليوم التالي للحرب يجب أن يُترجم إلى خطط عملية تحمي الشعب وتضمن له القدرة على البقاء. علينا جميعاً، كأفراد وجماعات، أن نتجاوز الصدمة وأن ننتقل نحو مرحلة الفعل والتكاتف والتلاحم، لنواجه العدو مجتمعين وبعزم لا ينكسر.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها