تتوالى الأحداث بكبيرها وصغيرها ليس في فلسطين وحدها، بل على امتداد مناطق الإقليم والعالم، ورغم كل ذلك تبقى ذكرى رحيل أبو عمار علامة فارقة وخالدة، ليس فقط برمزيتها التي رسختها مواقف وكلمات "الختيار" بل بما زرعته من وطنية وثوابت لقضية عادلة يهتز في وجهها العالم ولكنها تبقى شامخة بشموخ تلك الكوفية التي حملها أبو عمار سنينًا وعقود، رفعها في وجه معارك وتحديات لم تحملها الجبال، لكنها كانت بين يدي ذاك الزعيم موسومةً بعبارته الشهيرة "يا جبل ما يهزك ريح"، نعم هي كوفية الختيار التي باتت الآن رمزاً للحرية في كافة بقاع العالم، تحملها أجيال وأمم في شوارع وعواصم عالمية وكأن صاحبها يعيش بينهم في كل المناسبات.

اليوم تُطل ذكرى رحيل القائد والمؤسس للكيان الفلسطيني حينما كانت القضية على أبواب الاندثار في منتصف القرن الماضي، فحملها ومعه جيل آمن بعدالة القضية وحتمية النصر رغم الظروف القاسية والمعانِدة لذلك المشروع الوطني، حملها ودافع عنها حتى وضعها أمانة غالية بين أيدي جيل حمل راية المواصلة بعد رحيل القائد.

ولكن الذكرى يا أبو عمار ليست ككل سنة، فهي ذكرى حلّت وقضيتنا على مفترق طرق لم نكن نشهده حتى في أحلك الظروف، مخاطر حملتها تطورات نتاج تغيرات إقليمية ودولية اصطفت بشكل غريب لمواجهة الضحية وليس لمواجهة سبب وجذور الأزمة، ممثلةً باستمرار وعناد الاحتلال، تطورات غريبة تسير عكس تيار التاريخ، لأن النهاية دوماً رحيل الاحتلال وبقاء الشعوب.

مضى عام بين الذكرى والذكرى، وما بينهما زلازل تهديدات على المشروع الوطني، سواء لتداعيات اليوم التالي للحرب في غزة، وكذلك اتساع مخاطر الاستيطان ونهب الأرض تحت الحجج والذرائع وبقوة الاحتلال والأمر الواقع في الضفة الغربية والقدس، هي معركة متواصلة ما بين الذكرى والذكرى، لكن رغم شدة التحديات ومخاطرها وأبعادها غير المعلومة إلا أن الشعب الفلسطيني وأصدقاءه من كل مكان ما زالوا في الميدان وما زالت فلسطين هي العنوان والقدس هي البوصلة لإنهاء الاحتلال كما آمنت وعملت ومضت بكل قوة إلى "سلام الشجعان".

إنه شهر تشرين الثاني المليء بالمناسبات، فهو شهر البدايات بذكرى إعلان استقلال فلسطين وشهر التضامن في يوم التقسيم، إنه شهر المناسبات الكبيرة لفلسطين وقادة فلسطين، تماماً وكأن رحيل أبو عمار في هذا الشهر جاء ليؤكد أن تشرين الثاني هو شهر فلسطين بامتياز، فمن الجزائر عام 1988 وحتى الآن تبقى صورة أبو عمار وهو يعتلي منصة المجلس الوطني وسط رفاق النضال وأنصار القضية، وهو يعلن استقلال فلسطين من بلد المليون شهيد، علامة خالدة ورسالة ثابتة وأمانة على كتف كل فلسطيني، يؤمن بأن الاستقرار والأمن والسلام لا يتحقق إلا باستقلال فلسطين لتعيش جنباً إلى جنب مع باقي دول المنطقة، لأن ذلك هو ما آمن به جيل وقادة سلام الشجعان.

تأتي ذكرى هذا العام وشعبنا في أمس الحاجة للعودة للبيت الفلسطيني الذي بناه أبو عمار، فالوحدة في هذا البيت أفضل مليون مرة من حالة التشتت والانقسام التي يعيشها شعبنا تحت وطأة الحرب والتدمير منذ نحو عشرين عاماً، لقد دفع الشعب الفلسطيني أثماناً باهظة بسبب الانقسام والتشتت، إنها مناسبة للعودة من جديد للالتفاف حول خيار المشروع الوطني بثوابته ومكوناته، كبيت جامع للفلسطينيين في كل مكان، وهو الخيار الوحيد لمواجهة المخاطر والتحديات التي تمر بقضيتنا ومشروعنا الوطني الذي قضى أبو عمار حياته من أجل ترسيخه على أرض فلسطين.

مضت سنوات على رحيل الرمز والقائد، وما زالت ذكراه حيةً في شوارع وأزقة فلسطين والمهجر، ذكرى تطوف أرجاء الوطن وميناؤها القدس التي كانت وبقيت حلم أبو عمار، حلمه بأن ترفع زهرة من زهرات فلسطين علمها على أسوارها في ظل استقلال وسلام مستدام، وخلف أبو عمار رحل شهداء بالمئات والآلاف وما زالت العيون تربو لعاصمة فلسطين، وما زال الحلم يلوح لنا في نهاية النفق، مؤكدًا أن هناك مستقبل جديد، وغدًا تنعم فيه أجيال المنطقة بالأمن والأمان والسلام، فطريق الحرب لا يفضي إلا للهزائم وطريق السلام يفضي بالانتصار وفوز الجميع، هذا ما آمن به القادة والرموز وهذا الثمن الذي من أجله قضى الشهداء، ورغم ظلام هذا الليل وقسوة هذه الأيام تبقى ذكرى أبو عمار شمسًا على طريق الحرية والاستقلال وسينتهي الاحتلال طال الزمان أم قصر.