بعد نكبة عام 1948، وجد الشعب الفلسطيني نفسه بلا وطن، وإن فلسطين قد أزيلت عن خارطة العالم، وجد الشعب الفلسطيني نفسه مشردًا ممزقًا على جغرافيا واسعة، وفي ظل أنظمة حكم متعددة، يواجه خطر طمس الهوية والانصهار. كان المخطط المعد له ليذوب بين الشعوب الأخرى، وكل ما كان لدى الفلسطيني ذكريات مهشمة، وبعض رمزيات المكان، مفتاح البيت الذي شرد منه، صور قليلة ونادرة لحياة كانت هناك في المدينة، أو القرية في فلسطين.
وفي تلك الحقبة القاسية، انخرط كثير من الشباب الفلسطينيين، في أحزاب البلاد التي هُجروا إليها، أحزاب قومية ووطنية محلية، أحزاب يسارية شيوعية، وأخرى من الإسلام السياسي، وكان الاعتقاد لدى ذلك الجيل، أن هذه الأحزاب قد تقربهم من التحرير والعودة للوطن.
مجموعة عبقرية من الشباب كانوا يبحثون عن بديل وطني فلسطيني. وادركوا مبكرًا أن إعادة إحياء الوطنية الفلسطينية هو الأساس، لأنها نقطة البداية لإعادة توحيد الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، وهي البداية لتحصين وتعزيز الهوية الوطنية، وعدم السماح لهذه الهوية بالذوبان بهويات أخرى.
هذه المجموعة العبقرية هي التي أسست حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" في نهاية خمسينيات القرن العشرين، أي بعد عقد من النكبة، وكانت هناك عشرات المحاولات التي كانت تجري بالتزامن مع تأسيس الحركة، وظهرت مجموعات هنا وهناك، إلا أن القادة الذين أسسوا فتح كانوا أكثر تصميمًا ووضوحًا في مسألة الهوية واستقلالية القرار.
وقد يكون السر أيضًا في تكاملية هذه القيادة التي برز فيها ياسر عرفات "أبو عمار" كشخص يصر على الهوية الوطنية للتنظيم، وإلى جانبه خليل الوزير "أبو جهاد"، وصلاح خلف "أبو إياد"، ومحمود عباس "أبو مازن" والقادة الآخرين كمال عدوان، خالد الحسن وغيرهم، ولاحظ هؤلاء أن الأهداف بالضرورة أن تكون وطنية تتعلق بفلسطين وشعب فلسطين، وألا تتداخل أجندتهم الوطنية بأي أجندة أخرى إلا من زاوية الانتماء للأمة العربية. والأهم أن هذه المجموعة العبقرية بقيادة أبو عمار اكتشفت أن نجاحها وقدرتها على تحقيق هذه الأهداف الوطنية لن يتحقق إلا عبر تحرير إرادة الشعب الفلسطيني من أية وصاية، وأن المدخل لكل ذلك هو أن يعتمد الشعب الفلسطيني على نفسه ويمتلك قراره الوطني المستقل، وأن لا يكون هذا القرار رهنًا لأي إرادة أخرى أو أجندة وحسابات لقوى ودول أخرى.
لم يكن تحقيق ذاك سهلاً، فالأطراف التي لا تريد أن ترى إعادة إحياء الوطنية الفلسطينية كانت كثيرة وقوية ومتعددة الأهداف، وفي مقدمتها الصهيونية العالمية، التي كان من أبرز أهدافها محاولة شطب وجود الشعب الفلسطيني والاستيلاء على أرض وطنه التاريخي.
فمسيرة أبو عمار ومسيرة "فتح" لإحياء الوطنية الفلسطينية وتعزيز الهوية كانت مسيرة ملحمية، فَقَدَ الآلاف من الفلسطينيين أرواحهم من أجلها وخاضت الثورة الفلسطينية المعارك من أجل تأصيلها في وجدان الشعب الفلسطيني أولاً، والاعتراف بها كشخصية مستقلة لها وطنها الخاص في الإقليم والعالم. وبالنظر لأهمية هذه المسألة وحتى يومنا هذا تخوض القيادة الوطنية الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس محمود عباس "أبو مازن" نضالاً مريرًا من أجل حماية الوطنية الفلسطينية، خصوصًا أن قوى من الداخل الفلسطيني ومن خارجه تعمل بكل الوسائل لإعادة الإرادة الوطنية إلى عهد الوصاية، وتسليم مصير القضية الفلسطينية وقرارها إلى أطراف إقليمية.
وفي العقدين الأخيرين، كان التصدي للانقسام، وسيطرة حماس على قطاع غزة هو جزء من هذه المعركة، وقد أظهرت التطورات منذ السابع من أكتوبر العام الماضي أن "فتح" وقيادتها كانت على حق عندما كانت تحذر من رهن القرار الفلسطيني لأجندات خارجية وربط القضية الفلسطينية في إطار مصالح وحسابات غير وطنية.
ونتيجة لماكينات التضليل الإعلامي والسياسي الموجهة إلى المواطن الفلسطيني، فإن جزءًا كبيرًا من الجيل الراهن قد لا يدرك أهمية أن يمتلك الشعب الفلسطيني إرادته الحرة وأن يمتلك قراره الوطني، وما على هذا الجيل سوى العودة لأسباب حدوث نكبة 1948 بهذا الشكل المفجع والكارثي.
الوطنية الفلسطينية هي مفتاح كل شيء، ومن أبرزها مفتاح الوحدة الوطنية، فأي وحدة لا تتم على أساس وطني فلسطيني لن يُكتَب لها النحاح، والدليل أن كل محاولات إقناع حماس لهذه الوحدة قد فشلت، والسبب أن منطلقات حماس وعقيدتها ليست وطنية، وإنما هي مرتبطة بالتنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين. والوطنية الفلسطينية هي البوصلة التي تقود الشعب الفلسطيني إلى أهدافه الوطنية بوضوح ومن دون أي تداخل أو ضبابية مع أهداف أخرى تأخذ النضال الوطني إلى متاهات وتضحيات لا ضرورة لها.
ياسر عرفات وبعد عشرين عامًا على رحيله، لا يزال يحمل لقب أبو الوطنية الفلسطينية وهو كذلك مع كافة القادة المؤسسين لفتح، وهذه الأخيرة لا تزال هي المعبّر الحقيقي عن هذه الوطنية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها