عندما يحين وقت الحنين والشوق إلى القادة العظام تتوقف قلوب محبيهم عن الخفقان كيف لا والمرثي أعظم من الكلمات وأشمل من حدود العبارات يوم رحيلك سيدي يوم بكت فيه القلوب قبل العيون والسماء قبل الأرض، فالتاريخ يحتاج لوقت طويل لترتيب أوراق ياسر عرفات، ويتوجب علي أن أجتهد كثيراً لكتابة رثاء في طائر العنقاء الذي ملأ الدنيا وشغل الجهات الأربع للأرض، لأنك لم تمت سيدي لقد غادرنا جسدك فقط أما روحك الطاهرة فقد انطلقت من جسدك لتسكن ملايين الأجساد وتبث فيها روح الصمود والنضال وكأنك وهبت الحياة للآخرين ومن يهب الحياة لغيره لا يمت سيدي.      

سيدي الرئيس كم أنت قوي كالبحر عميق كشجرة الزيتون و"معاً وسويًا حتى القدس بعونه تعالى" رحلت جسداً إلا أنني ما زلت أستلهم من روحك الباقية فينا أعظم المعاني التي علمتنا إياها في حب الوطن والإخلاص للقضية وعشق الأرض.

نعم أنت أبو عمار الذي شغل العالم وحير كبار القادة والمفكرين والسياسيين أنت الرقم الصعب صاحب البدلة العسكرية بلون زيت الزيتون والكوفية السمراء التي أصبحت الدليل المعنوي والسياسي لفلسطين ورغم رحيلك إلا أنك أصبحت اليوم أكثر حضوراً فينا من أي وقت مضى فالعظماء سيدي يرحلون جسداً ويبقون مخلدين فكراً ومنهجاً.

سيدي أبو عمار، أتذكر كم مرة انحنى الموت أمامك؟ حتى الموت كان يرتعد خجلاً وارتباكاً منك لأنك عظيم أنت في مماتك كما كنت في حياتك لقد كان الموت خجولاً كيف يتصرف معك هل يستقبلك أم يهرب منك؟ لكنه اطمئن حينما رأى في استقبالك شرفاً له يزين به صفحات الخالدين لديه غادرتنا مبتسماً فبدا لك الموت صاغراً مرتبكاً ونلت الشهادة التي كانت مبتغاك واستقبلتك الملائكة مهللة خاشعة ترتيلك نداء الحق ورغم أنك هيأتنا مرات عدة لمشهد وداعك سيدي إلا أنه تبقى للحظة الفراق لوعة حينما ألقيت علينا نظرتك الأخيرة مودعًا تشير بعلامة النصر لتعطينا الأمل حتى في أحلك الظروف.

استثنائياً كنت في حياتك و في مماتك أيها الجبل الذي لا تهزه الريح رحلت ولكن روحك ترفرف حولنا يا قنديلاً لا ينطفئ نوره لأن زيته من شجرة الزيتون التي باركها الله في كتابه العزيز أنا يا سيدي لا استطيع التحدث عنك كشخص غائب فأنت يا أبو عمار ماثلاً أمامنا وحاضرًا معنا أبدا مشتبكاً مع الواقع، ولا زالت روحك دائمة التحليق في فضاء فلسطين تبعث الأمل المتجدد بالنصر والحرية، عاشت ذكراك حية باقية في قلوبنا ما دام الليل والنهار ولا نامت أعين الجبناء إن العين لتدمع وإن القلب ليجزع وإنا على فراقك يا ياسر عرفات لمحزنون.

"لن يكتمل حلمي إلا بك يا قدس" وقفتُ بجانب تلك اللوحة الكبيرة في ذلك الصباح البارد قرأت الفاتحة وترحمت على روح الشهيد الياسر "أبو عمار"، أنا وجميع أبناء الشبيبة الفتحاوية المتواجدين هناك، وتأملت صورته وهو يرتدي بزته العسكرية وكوفيته المعقودة ويحدّق بعينيه إلى القدس، حقاً شرد ذهني لدقائق إلى كل الأشياء الجميلة التي ارتبطت معها إنشاء وتعليق هذه اللوحة في ذلك المكان فهذه مقولة الراحل أبو عمار مكتوبة على لوحة عملاقة مرسوم عليها صورته وهو يرتدي الزي الزيتي "الكاكي" والكوفية وبجانبه القدس الشريف والمتواجدة في ساحة فلسطين.

اختلطت دموعي بحبات المطر حزناً على رحيل رعد الثورة وأسطورة هذا العصر في هذا الزمان الذي قل فيه الرجال، وبعد أن اشتدت الزخات حملت أمتعتي وذهبت ولكن بقى ذهني مشغولاً بتلك اللوحة والحلم الفلسطيني الذي لم يكتمل بعد تمر علينا هذه الأيام ذكرى أليمة على قلوبنا الذكرى العشرين لرحيل صاحب الكوفية سيد الثوار أبو عمار فقد بكى غصن الزيتون الأخضر على رحيله وبكت فلسطين وبكى الأقصى وبكت زهرة المدائن ألمًا على فراقه.

تعتصر قلبي الدموع كلما تذكرت المشهد الذي لم يفارق ذاكرتي أبداً وهو قبلات الخالد أبو عمار من باب الطائرة المروحية بمقر المقاطعة بمدينة رام الله عندما ذهب لرحلة العلاج إلى عمان ثم إلى باريس وكان يرتدي زيه الزيتي وقبعته الشتوية ويرسل لمودعيه القبلات في الهواء ويلوح بيده من أعلى الطائرة، فلم يكن يعلم أنها ستكون لحظات الوداع الأخيرة والقبلات الأخيرة والنظرات الأخيرة لشعبه الذي أحبه، حقاً مشهد من الصعب نسيانه مدى الحياة فقد أبكى الآلاف من العالم فقد عاد لوطنه محمولاً على الأكتاف بالتابوت الملفوف بالعلم الفلسطيني حيث وورى جثمانه الثرى في مدينة القدس التي أحبها وطلب أن يدفن فيها، وحرم أهالي قطاع غزة والشتات من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه.

محمـد عبد الرؤوف عرفات القدوة الحسيني وكنيته "أبو عمار" ولد بمدينة القدس عام 1929م استطاع أن يصنع لنفسه شخصية كاريزمية وبراغماتية وبحنكته السياسية استطاع أن يصنع بها سلام الشجعان فلقد كان متحدثاً شديد الدهاء وعالي المرونة والدبلوماسية، وكان يرفع شارة النصر دومًا في كافة المحافل، وهنا نستذكر السجل التاريخي المليء بالنضال الوطني وخطاباته الرنانة والتي كان أبرزها إعلان الاستقلال الفلسطيني في الجزائر عام 1988م بكل رجولة وحماسة قائلاً: (باسم الله، باسم الشعب العربي الفلسطيني نعلن قيام دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف)، حقاً ستبقى كلماته كشريط سينمائي يصدح في أذهاننا، فقد حركت كلماته مشاعر الملايين فهو من أسمع بها صوت فلسطين للعالم، وهنا نذكر صموده أثناء حصاره ثلاثة أعوام في قلعته برام الله حيث طوّقت الدبابات الإسرائيلية مبنى المقاطعة وقامت بتدمير أجزاء منه ولكنه بقي شامخاً صامداً ولأن الجبل لا تهزه الرياح فقد أعلنها وقالها شهيداً، شهيداً، شهيداً.   

ستبقى كلماته خالدة وراسخة في قلوبنا وعقولنا للأبد والتي أصبحت جزءًا من حياتنا اليومية ونرددها في كل المواقف التي تصعب علينا نتذكر أجمل ما قاله: "يا جبل ما يهزك ريح، لا تهتفوا لي بل اهتفوا لفلسطين والقدس بالروح بالدم نفديك يا فلسطين، عالقدس رايحين شهداء بالملايين، ليس فينا وليس منا من يفرط بذرة تراب من تراب القدس وفلسطين، سيرفع شبل من أشبال فلسطين أو زهرة من زهراتنا علم فلسطين فوق كنائس القدس ومآذن القدس وأسوار القدس الشريف، هذا الشعب شعب الجبارين لا يعرف الركوع إلا لله تعالى في ساعة الصلاة، يريدوني إما طريداً وإما أسيراً وإما قتيلاً لا أنا بقول لهم شهيداً، شهيداً، شهيداً، القدس عاصمة دولة فلسطين الأبدية واللي مش عاجبه يشرب من بحر غزة، يرونها بعيدة ونراها قريبة وإنا لصادقون، وإنها لثورة حتى النصر حتى النصر حتى النصر"، وبإذن الله سوف تتحقق كلماته وسيرددها من بعدنا الأجيال القادمة إن شاء الله.

شاهدت على شاشة التلفاز عرض عسكري للطائرة الخاصة بالراحل الغالي أبو عمار كم تمنيت أن أراه يصعد على سلمها ويقودها ويحلق فوق بحر غزة فهذه الطائرة التي رافقته في رحلة العودة إلى أرض الوطن وحلق بها مراراً في السماء والآن في ذكرى وفاته روحه تحلق بيننا.

فهو الأب الحنون كان يساعد كافة المحتاجين والفقراء وهو المعلم ورمز للبطولة والفداء لكل شعوب العالم وهو من علمنا التضحية من أجل الوطن وفلسطين وهو الرقم الصعب في المعادلة وهو أيقونة النضال والكفاح فقد عاش بطلاً ومات بطلاً وبقي وفياً لقضية القدس واللاجئين والأسرى مدى حياته.

وفي نهاية مقالي تحضرني الكثير من الكلمات ولكن سأكتفي بأن أقول أبا عمار لن ننساك ولن تنساك فلسطين ولن تنساك أبناء الشبيبة الفتحاوية والأجيال القادمة وبإذن الله سيرفع شبل من أشبالنا وزهرة من زهراتنا علم فلسطين فوق مآذن القدس وكنائسها، وستبقى خالداً بقلوبنا وستبقى الحاضر الغائب رغم مطر الدموع والألم بعد رحيلك، وبإذن الله تعالى سيتحقق حلمك الذي لم يكتمل بعد، فنحن  شعبٌ تاريخه ياسر عرفات.

وهنا سقط القلم من يدي وإذ بي أردد في ذهني "نموت وتحيا فلسطين".