غدًا، حين ستعود، ستقف مكتوف اليدين في مربع الحيرة، ستقف ملجوم اللسان، وزائغ البصر، ومهدود الحيل. ستعود مدهوشًا، مرتبكًا، مضطربًا، وأنت في كامل يقظتك، ستصرخ وأنت تقف على قدميك، ورأسك يعلو ويعلو ويعلو، حتى لتمر به غيوم السماء؛ ستصرخ: يا الله، ماذا أرى؟

غدًا، حين ستعود إلى الدرب الموصل إلى البيت، ستجد أن الدرب تغير، صار أكثر نحولة، وتعرجا، وأكثر حفرًا، وحجارة، وأن أكوام التراب والرمل والأشواك والنفايات والقصدير والحديد عرشت تلالاً في وسطه وأطرافه، ولكنه صار أكثر ضوءًا، ووضوحًا، ورهجة، ستسأله سؤال طالب المؤانسة: أعرفتني؟ سيضحك، ويضج، ويهتز كما لو أنه شجرة لوز مزهرة، ويمتد أمامك، ويسبقك إلى البيت، يا الله، ما أجمل الدروب السابقات للخطى والأمنيات.

وغدًا، حين ستعود إلى البيت، في جباليا، وبيت حانون، وبيت لاهيا، والشيخ رضوان، والصفطاوي، والزيتون، والتفاح، والسودانية، وغزة، والشجاعية، والدرج، والرمال، وتل الهوى، وجحر الديك، ومخيم الشاطئ، والبريج، والمغازي، والنصيرات، ويبنا، ودير البلح، وخان يونس، وبني سهيلا، والمواصي، ورفح. لن تجد البيت، ستدور مثلما يدور اللولب في مكانه، وأنت تسأل: أين أنت أيها البيت؟ أنت تراه، ولا تراه، هذا هو خزان الماء المشطور المتهاوي، وهذه هي سكة القطار، وهذه هي بداية سوق الحسبة، فأين أنت أيها البيت، أين أنت أيها الباب، وعندئذٍ ستمتلئ عيناك بالدموع، فلا ترى شيئًا، لكن وبعد لحظات، ستدلك مشاتل الحبق والنعناع والزنبق، ها هي زاوية، حدق جيدًا، إنها زاوية، ستركع قربها، وتهامسها أصابعك، ستراها ترتعش، تتحرك، فالنباتات أرواح أيضًا، ستقول لها: أعرفتني؟ قولي: نعم. أرجوك! وستتجول ببصرك في المكان، ها أنت ترى، ترى الدلو، والحبل، وفوهة البئر، ترى الدالية، وما علق بها من حذوات الخيول، وقواقع السلاحف، والخيوط التي كان لونها أخضر، إذًا أنت في البيت، وهذا الصوت، أهو صوتك المتعالي المنادي: ها قد عدت أيها البيت، فانهض.

غدًا، وحين ستعود، سترى الصباحات الطائرة بروائح القهوة، والهال، والزنبق، والنعناع، وقد ملأها صخب تلاميذ المدارس وضجيجهم، ونداءاتهم، وكلامهم المتداخل، ستفرح وأنت تراهم بأطوالهم التامة، وخطاهم العجول، ووجوههم المضاءة بالابتسام، والحقائب الراعشة تلتصق بظهورهم، ستراهم  مثل رفوف الطير الماضية إلى ضفاف الأنهار والسواقي لتشرب، أعرف أن المشهد سيرجك رجًا، سيأخذ بمجامع قلبك. كي تبكي، وأنت ترى معظمهم يطلبون المدرسة بساق واحدة، وذراع واحدة، وعين واحدة، وأذن واحدة، وهم سيبكون أيضًا، حين يرون مقاعد الصفوف شاغرة من أحمد، ومحمد، وإسماعيل، وراشد، وتميم، والتلولي، وأبو شامة، والحسيني، والياس، ومجيد، وبسام، وناصر، وفرحان، وخديجة، وزينب، وفاطمة، وخلود، وعودة، ويافا، وبيسان، ورام الله، وعزيزة، وسيبكون أيضًا حين يعرفون أن معظم أساتذتهم، قد رحلوا.

غدًا، وحين ستعود، إياك وغمة المفاجأة، إياك وكارثة البكاء، فالجيران مضوا في غيبتهم الطويلة، لن تشرب القهوة معهم مرة أخرى، ولن تصغي لأسئلتهم، ولن تتذمر من طلباتهم وضجيج أولادهم، لن تحسدهم على شيء، ولن تتأفف من شيء، ولن تطلب من أهل بيتك أن يغلقوا نوافذ البيت كي لا تعم رائحة السمك المقلي بيوتهم، لا انتبه، أرجوك، لقد رحلوا، ليس من بيوتهم فقط، بل من سجل الأحوال المدنية، فأنت لن تسأل أحدًا منهم في المساء عن أخبار نابلس، والخليل، وطولكرم، وقلقيلية، ومخيم جنين، وما يحدث في السجون، لن توقف أحدًا منهم، لتقول له مودعًا: تصبح على خير.

غدًا، وحين ستعود، إياك والحزن، إن قادتك قدماك إلى دار البلدية، لقد دمرت، أو إلى السوق، لقد غدت أرضًا مفلوحة، أو إلى النادي الرياضي الذي لم يتبق منه سوى يافطة الحديد المكتوب عليها: نادي مخيم جباليا الرياضي، أو إلى المركز الثقافي، لقد احترق بما فيه من الكتب، كتب ابن رشد، وابن خلدون، وابن سينا، والمتنبي، والمعري، والبحتري، وبلدانية فلسطين، والقرى المهجرة، وسير الشهداء، ومعارك القطاع والضفة، وأشعار محمود درويش، ومعين بسيسو، وتوفيق زياد، وفدوى طوقان، وقصص جبرا إبراهيم جبرا، ورشاد أبو شاور، وغريب عسقلاني، وزكي العيلة، ويحيى يخلف، وعبد الله تايه، ومحمد نصار، ومحمد علي طه، وسميرة عزام، وزياد خداش، وماجد أبو غوش. كلها غدت وقيدة في وقت الغياب، إن خرجت، إياك والحزن، كفى 76سنة من حزن، وإن تعبت من المشي، ارمِ جسدك قرب مشتل نعناع أو حبق. واستعد أنفاسك بهدوء مثل لُقلُقٍ حزين.

غدًا، وحين ستعود، اجلس في حضرة البحر وعاتبه، اجلس في ظلال أجمات القصب، واكشف عما في صدرك للبحر، قل له ما تشاء، وسارره بكل ما اختزنته روحك، قل له ألست أنت بوسيدون، ألست وريثه، ألست من طينته؟ أسألك: أين هي قوتك، وكيف سمحت للحديد أن يطوي جمال شواطئك، أما رأيت الإسرائيليين وهم يدمرون ويخربون كل هذا الجمال الذي كان هنا، قل لي كيف سكت، كيف أغمضت عينيك عن كل هذا الذي حدث، وأين كنت، وهل عشت الخوف والغياب والأسئلة الكاوية مثلنا، أنسيت  أنك وريث بوسيدون، وأين هي أمواجك، وقواربك، وسفنك، والفلوكة، احترقت، كيف؟ وأين هو السمك الفضي والذهبي والزبيدي والملوكي واللقس والجرواني وأبو عيون واللؤلؤي والزاهي والبوري والجريح والدبسي والسردين والجمبري والسلطان إبراهيم والمليطة والتونة، والسويس والمرمير والصروص والغزلاني والسكمبلة، أين هي القباب الشاطئية، أين هي العرائش، وأين هي القفف والصناديق والسلال، وأين هم الصيادون، وأين هي سترهم الكتانية، وقبعاتهم القشية، بل أين هي سوق الحسبة؟ وأين هو غناء الصيادين، وأين هي نداءات الباعة؟ يا إلهي، أي بحر هذا؟

غدًا، حين ستعود، جالس شجيرات الرمان، واسألها عن سر بقائها، على الرغم من أن دبابات الإسرائيليين مرت فوقها بجنازيرها الحديدية، وعلى الرغم من أن جرافات الإسرائيليين جرفتها، مثلما جرفت البيوت، تبًا لتلك الكتل الحديدية التي لم تتهيب جمال منظرها المدهش، ولم تعرف معاني لون الجلنار الذي زها وتراقص وأضاء، مثلما لم تتهيب حرمة البيوت، وفيها أسرة الرضع، ومناغاة الأطفال، وكتاباتهم ورسومهم على الحيطان؛ عفوًا، أرجوك، لا تسأل عن سبب بقاء شجيرات الرمان، لأنك تعرف، أنها هي الجذور، وتعرف أيضًا، أن من أعادك إلى هنا، هي الجذور.