ثاني أهم عناصر قوة الشعب الفلسطيني هو دعم شعوب العالم المستند لمنظومة قوانين تنتصر للعدالة وحقوق الإنسان والحق في التحرر.
منظمات "أمنستي" و"هيومن رايتس ووتش" ومجلس حقوق الإنسان ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية وغيرها من منظمات فرعية، هي جزء أساسي من القطب الدولي الداعم لتحرر الشعوب والمناهض للحرب وجرائمها وللعنصرية وآفاتها.
وفي كل الحروب السابقة وفي حرب الإبادة الراهنة وقفت هذه القوى والمؤسسات الدولية إلى جانب الشعب الفلسطيني، وكانت جزءًا من ميزان قوى سياسي وقانوني وإنساني وأخلاقي رجحت كفته باستمرار ضد الظلم والاستبداد والعدوان وغطرسة القوة والأبارتهايد.
الرجحان لم يترجم إلى أفعال ونتائج ملموسة تقود إلى نيل الشعب الفلسطيني حريته، لكنه لا ينفي أهمية وضرورة هذا النوع من الاستقطاب الذي أخذ يطور من أسلوبه ونشاطه ويترك بصمات مهمة على صانع القرار في عديد الدول الداعمة للحرب.
فقد وضع تدخل محكمة العدل الدولية قيوداً على حرب الإبادة في قطاع غزة، ووضع تدخل المحكمة الجنائية قيوداً على المتهمين بارتكاب جرائم حرب، ويمكن القول إن الرأي العام العالمي وتدخل المنظمات الحقوقية ساهما في منع التهجير القسري خارج قطاع غزة.
حلقة الوصل بين الرأي العام والمنظمات الحقوقية، هو الشعب الفلسطيني ونضاله التحرري. وهنا يصعب تثمير الفعل العالمي للشعوب والدول والمنظمات الحقوقية، بمعزل عن العامل الفلسطيني ومدى جهوزيته ومواءماته واستجاباته للفعل العالمي، من خلال الإمساك بما هو مشترك بدءا بمنظومة القانون والشرعية الدوليين، وما أفرزته من معايير ومرجعيات وقواعد.
ولا يجوز منطقياً الجمع بين المنظومة ونقيضها، ولا يجوز التعامل الانتقائي وحيد الجانب الذي يأخذ ما يتفق مع مفاهيمه ومواقفه ويرفض ما لا يتفق معها، بمعنى أنه يؤيد تقارير المنظمات المتعلقة بالانتهاكات الإسرائيلية ويرفض أو يتجاهل الجزء المتعلق بالانتهاكات الفلسطينية، بل لا يعترف أصلاً بوجود انتهاكات فلسطينية ويتجاهل كل حديث عنها.
إن جذر تجاهل الأخطاء الفلسطينية هو عدم الإمساك بما هو مشترك عالمياً من منظومة القوانين والقواعد والمرجعيات، أو قبولها تكتيكياً بمعزل عن الاقتناع بها والدفاع عنها وتحويلها إلى جزء مهم من ثقافة الحركة السياسية والمجتمع.
ورغم الخسائر الفادحة البشرية والسياسية والاقتصادية التي لحقت بالشعب الفلسطيني، لم يجر نقد مخالفة قوانين الحروب المنصوص عليها في عدد من الاتفاقات والبروتوكولات التي يبدو أنها لا تشكل جزءًا من قاعدة المعلومات للمناضلين، ومن ثقافة المجتمع الفلسطيني.
وفي غياب النقد والمراجعة يتكرر انتهاك قواعد الحرب وتتعاظم الخسائر، ويقدم الخطاب ذاته في تبريرها واستمرارها.
وفي هذا السياق، يعرض تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش الصادر في تموز الماضي لقراءة سياسية فلسطينية توحي بعدم استخلاص العبر والإصرار على مواصلة مسار لا يفضي إلى تجاوز نقاط الضعف والأخطاء، ولا يؤدي إلى تصويب المسار.
وفجأة تحولت منظمة "هيومن رايتس ووتش" من منظمة كاشفة للانتهاكات الإسرائيلية، إلى منظمة تتبنى الرواية الإسرائيلية في تقريرها حول السابع من أكتوبر.
ومن المفارقة أن هذه المنظمة نشرت أكثر من مئة وعشرين تقريراً وبياناً صحافياً ومقاطع فيديو وغيرها من الوثائق التي تشير إلى الانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة لقوانين الحرب، كالقصف المتواصل للمدنيين وسقوط غالبية عظمى من الأطفال والنساء ضحايا، والاستخدام المتكرر وغير القانوني للفسفور الأبيض، ومنع وصول الغذاء والماء وإعاقة المساعدات الإنسانية ما يشكل عقاباً جماعياً، معتبرة ذلك جريمة حرب ضخمة الحجم والأبعاد.
وكانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" قد أصدرت تقريراً في نيسان 2021، بعنوان "تجاوزوا الحد، السلطات الإسرائيلية وجريمتا الفصل العنصري والاضطهاد"، والذي رصد انتهاكات إسرائيلية بحق الفلسطينيين، ووصف سياسة الحكومة الإسرائيلية الشاملة، بأنها تعمل للإبقاء على هيمنة الإسرائيليين اليهود على الفلسطينيين.
وعرض الانتهاكات الجسيمة، التي تُرتكب ضد أبناء شعبنا في فلسطين، بما فيها القدس الشرقية "تشمل هذه الانتهاكات مصادرة الأراضي على نطاق واسع، والحرمان من حقوق الإقامة، وتعليق الحقوق المدنية، وترقى إلى مستوى الأفعال اللاإنسانية، والانتهاكات الخطيرة للحقوق الأساسية لشعبنا.
ويستنتج التقرير استناداً إلى تعريف الفصل العنصري وأبحاث المنظمة، أن السلطات الإسرائيلية ترتكب جريمتي الفصل العنصري والاضطهاد بحق الإنسانية.
ردت وزارة الخارجية الإسرائيلية على التقرير باتهام المنظمة بأنها تعتمد منذ وقت طويل لأجندة معادية لإسرائيل.
وأيدت المحكمة العليا الإسرائيلية قراراً بطرد المدير التنفيذي لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" عمر شاكر بموجب قانون يحظر دخول أنصار مقاطعة إسرائيل.
ويقول انطونيو غوتيريش لا يمكن تطبيق القانون الدولي الإنساني بشكل انتقائي فهو ملزم لجميع الأطراف بنفس القدر وفي جميع الأوقات والالتزام به لا يعتمد على مبدأ المعاملة بالمثل، والانتهاكات التي يقدم عليها أحد أطراف النزاع ليست مبرراً للانتهاكات التي يقوم بها الطرف الآخر "ما من فعل أو سياسة أو جريمة يمكن أن تبرر لإسرائيل القتل وأخذ الرهائن والجرائم التي ارتكبت يوم السابع من أكتوبر، كما أن هجوم السابع من أكتوبر لا يمكنه تبرير جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في غزة".
وإذا كانت إسرائيل لا تعترف بانطباق القانون الدولي على الشعب الفلسطيني، وهي لا تعترف بذلك قولاً وفعلاً، ما يجعلها تتبع سياسة استباحة الأرض والحقوق والإنسان الفلسطيني طولاً وعرضاً، وهي تحظى في الوقت نفسه بدعم ورعاية أميركية وبعض الدول الغربية. فهل هذا يدفع فلسطين للانسحاب من القانون الدولي والمؤسسات والمعاهدات والاتفاقات، وفي هذه الحالة ستخسر الدعم العالمي، وتخسر الشرعية الدولية، ويتم دمجها بالإرهاب وتتحول حركتها السياسية إلى ورقة تستخدمها هذه الدولة أو تلك لتحسين حصصها ونفوذها.
هل هناك مصلحة حقيقية للشعب الفلسطيني في خسارة الشرعية؟ هناك نخب وقوى فلسطينية تتبنى شرعية محور النضال وايديولوجية حسم الصراع دينياً بمعزل عن مصلحة الشعب الفلسطيني، وعلى حساب الشرعية العالمية وحالة الاستقطاب الداعمة للتحرر الفلسطيني. وهي لا يهمها الشرعية لذا يستمر الالتباس في رؤية الشرعية الفلسطينية ومكانتها وهي تتعرض إلى استهداف إسرائيلي مركز، ويستمر القطع مع مسار يلبي الحقوق المشروعة لصالح مسار يضع تلك الحقوق في مهب الريح.
وتقرير "هيومن رايتس ووتش" حول السابع من أكتوبر يطرح سؤالاً مفاده، هل تحولت منظمة "هيومن رايتس ووتش" من منظمة معادية لإسرائيل إلى منظمة تتبنى الرواية الإسرائيلية حول الحرب؟ التهمة تحتاج إلى تدقيق التقرير، والبحث في ما لنا وما علينا، ولا يمكن الاعتراف بالأخطاء أو بانتهاك قواعد الحرب المعرفة في منظومة القوانين والاتفاقات الدولية أن يشكل نقيصة قاتلة، أو أن يطعن بشرعية التحرر الفلسطيني، ويحوله إلى إرهاب.
وعلينا ألا نفقد البوصلة في اللحظة الحرجة. وللحديث بقية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها