الامبراطوريات العالمية على مر الحقب التاريخية تتغول على الشعوب والأمم الأخرى في مراحل تحولاتها المختلفة حتى انهيارها، ويحكمها قانون الثقة المفرطة بالقوة، وتتعاظم غطرستها وعمى القوة كلما تراجعت مكانتها العالمية في محاولة للحفاظ على تسلطها وهيمنتها على الآخرين دون أية معايير أو قيم إنسانية. لأنها تعمل على حماية مكتسباتها ونفوذها العالمي، باعتبارها الوصية الوحيدة على الكرة الأرضية، وصاحبة القول الفصل في الشأن الدولي.
في مؤتمر ميونيخ الأخير، الذي افتتح اعماله يوم الجمعة 16 فبراير الماضي، القى وزير خارجية الولايات المتحدة انتوني بلينكن كلمته يوم السبت 17 فبراير الماضي، جاء فيها جملة صادمة، ولكنها غير مفاجئة، كونها تعكس نهج راعي البقر الأميركي في التعامل مع دول العالم، أثارت ردود فعل في أوساط المؤتمرين، أنه "إذا لم يجلس المرء إلى مائدة النظام الدولي فيوضع على قائمة الأطعمة" نقلاً عن وكالة الأنباء الكورية الشمالية، بتعبير آخر، أن على الدول الأخرى الجلوس صاغرة إلى محددات ورؤية واشنطن ونظامها العالمي، والتسليم والطاعة لمشيئتها، وإلا فأنها ستوضع في قائمة الأطعمة، وسيتم التهامها وفق منطق وقانون الغاب، الذي يقوم على نظرية "القوي يأكل الضعيف".
وهذا ليس مستغربًا ولا مستهجنا. لأن الولايات المتحدة قامت على جثث هنود أميركا ال105 مليون، وشنت 114 حربًا عدوانية كبيرة أو صغيرة، ولجأت إلى أكثر من 8900 مرة من التدخل العسكري خلال 130 سنة حتى الحرب العالمية الأولى 1914/ 1918، واستولت على العديد من البلدان والأمم الأخرى في نصف الكرة الأرضية الغربي، واخضعتها لها ووسعت أراضيها بأكثر من عشرة أضعاف. ولم تتوقف نزعة العدوان والتوسع بعد الحرب العالمية الثانية 1939/1945 لديها، لا بل واصلت ذات السياسات عبر الحروب والتدخلات العسكرية المتعددة في أرجاء المعمورة، ومنها فيتنام وكوريا ولاوس وكمبوديا والعراق وأفغانستان وسوريا وليبيا والصومال وتايوان والسودان ودول القارة السوداء.
ومازالت تواصل في الألفية الثالثة ذات النهج، وكلما شعرت أن مكانتها كقطب رئيس في العالم تراجع أمام الانزياحات لعالم متعدد الأقطاب، كلما زاد توحشها وانفلاتها من عقال القانون الدولي، والقانون الإنساني الدولي، وتعاظمت بلطجتها على دول العالم كافة كبيرها وصغيرها. وعكست ذلك صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية في مقالتها بعنوان "مملكة الحيوان والشرق الاوسط " بقولها إن أميركا حرصت على "إحراق الغابات كلها" بهدف "إبادة النحل الطفيلي" انسجاما مع صيرورتها ولحساب مصالحها العليا، باعتبارها أسد "غابة الشرق الأوسط" وتشبيه البلدان فيه ب"النحل الطفيلي" الذي يجب أحراقه، أو التهامه وتركيعه لإملاءاتها واستراتيجيتها.
ولهذا عميق الصلة بحرب الإبادة الجماعية ضد الشعب العربي الفلسطيني عمومًا وفي قطاع غزة خصوصًا، حيث نرى بأم العين الولايات المتحدة تتناول طعامها جالسة الى المائدة وفي قائمة الطعام فلسطين والبلدان العربية الأخرى وغيرها من إقليم الشرق الأوسط طعاما لها. وتُظهر إسرائيل اداتها الوظيفية الكفاءة والمهارة في إنضاج الطبخة بما يتناسب ويليق بذوق واشنطن. وحتى تكون الطبخة وفق مخططها وبما يستجيب لمصالحها أرسلت حاملات طائراتها وغواصاتها النووية وبوارجها وقواتها العسكرية من النخبة مع اقرانها من دول الغرب الرأسمالي لالتهام فلسطين والعرب عموما، وتسيد دولتهم اللقيطة إسرائيل عليهم جميعا، بيد ان الطبخة شاطت، واحترقت أصابع ساكن البيت الأبيض وخدمة الصهاينة في تل أبيب.
لكن قانون الغاب اليانكي لم يعد مقبولاً عالميًا وعلى المستويين الرسمي والشعبي، وهناك رفض من الغالبية الساحقة من دول العالم ضد هذا التوحش والانفلات المجنون لإدارة بايدن وربيبتها إسرائيل، وحتى داخل البيت الأميركي نفسه هناك رفض متزايد لهذه المنهجية، وأيضا في أوساط الرأي العام والنخب الأوروبية الغربية. ولهذا قد تضطر الولايات المتحدة لمراجعة نسبية لخيارها الجهنمي، وتقدم بعض التنازلات الشكلية تحت ضغط التحولات العالمية، ونتيجة فشلها في تحقيق أهداف حرب الإبادة الجماعية على فلسطين. دون أن يعني ذلك تماهيها مع المزاج العام العالمي. لأنها عندئذ لا تكون الإمبراطورية الأميركية، وتقر بهزيمتها، وتخليها الكلي عن دورها ومكانتها كمقررة في السياسة العالمية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها