بقلم: مهيب البرغوثي
"عندما نكتب عن الشهداء، يجب أن نذكر أن الاحتلال قتلهم. يجب ألا نترك الفعل للمجهول".
يكتب الشاعر موته في صورة شعرية كما حدث مع الكثير من الشعراء على مدى التاريخ، حدث مع العرجي في بيته الشهير "أضاعوني وأي فتى أضاعوا/ ليوم كريهة وسداد ثـغـر"..
ونبوءة الشاعر جاءت على لسان لوركا، "وعرفت أنني قتلت/ وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس/ وفتحوا البراميل والدواليب/ ونبشوا ثلاث جثث/ ونزعوا أسنانها الذهبية، لكنهم لم يجدوني". وبالفعل قتل الشاعر رميا بالرصاص بعد شهرين، واختفت أو أخفيت جثته.
على خطى هؤلاء الشعراء الذين رافقهم هاجس الموت، وتنبأوا بلحظاتهم الأخيرة، جاءت النهاية المأساوية للشاعر رفعت العرعير ابن فلسطين الذي استشهد في الحرب على غزة هو وشقيقته وأربعة من أطفالها بعد أن هدم البيت عليهم.
"إذا كان لا بد أن أموت
فلا بد أن تعيش أنت
لتروي حكايتي
لتبيع أشيائي
وتشتري قطعة قماش
وخيوطا
(فلتكن بيضاء وبذيل طويل)
كي يبصر طفل في مكان ما من غزة
وهو يحدق في السماء
منتظرا أباه الذي رحل فجأة
دون أن يودع أحدا
ولا حتى لحمه
أو ذاته
يبصر الطائرة الورقية
طائرتي الورقية التي صنعتها أنت
تحلق في الأعالي
ويظن للحظة أن هناك ملاكا
يعيد الحب
إذا كان لا بد أن أموت
فليأت موتي بالأمل
فليصبح حكاية".
ومنذ لحظة موته، لم تنقطع قصيدته عن الألسن، فالممثل الإسكتلندي براين كوكس ألقى قصيدة رفعت العرعير الأخيرة. كما رددتها شابة وناشطة أميركية في مقطع مصور، وما زال المقطع يحظى بتداول واسع في وسائل التواصل الاجتماعي. كما خرجت مسيرات في مدن العالم تحمل صوره وتدعو إلى وقف الحرب على غزة، وفي معرض الكتاب الوطني في روما، نهضت فتاتان مناصرتان لفلسطين لإلقاء القصيدة أمام الجمهور.
العالم داخل بيت
كتب العرعير قصائدة باللغة الإنجليزية كي يقرأها العالم كله، وكان حريصا أن يضمنها حكايته ومأساة شعبه، كي تصبح أرواح الشهداء طائرات ورقية ملونة في سماء غزة.
القصيدة أيقونة
في الحروب يتباهى كل طرف بما يمتلكه من قنابل وصواريخ وطائرات، ويصفق جمهور الشاشات كلما تضاعفت أعداد القتلى. بينما العرعير لا يملك سلاحا، ولا يخوض حربا، بل ذهب إلى الفكرة الأكثر سموا وراء هذا كله؛ وهي حق كل إنسان في الحياة، وحقه في قول كلمته..
شخصية الشاعر الشهيد
أستاذ الكتابة الإبداعية والأدب الإنجليزي في الجامعة الإسلامية في غزة، درس الماجستير في لندن والدكتوراه في ماليزيا، قرر عقب عدوان عام 2014، الذي فقد فيه شقيقه وأفرادا من أسرة زوجته، أن يتبنى مشروع "نحن لسنا أرقاما"، الذي يهدف إلى طرح معاناة الغزيين عبر القصص، حتى لا يتحولوا إلى مجرد أرقام وأسماء غامضة في نشرات الأخبار، فمن حق الضحايا أن يمتلكوا قصصهم، وأن يحكوها للعالم كله، قصة أرضهم وحقهم في الكرامة والعيش.
أخذ العرعير حينها على نفسه عهدا بترجمة كل ما يستطيع من قصص إلى الإنجليزية، حتى عناوين مثل "غزة تكتب مرة أخرى" و"غزة بلا صمت".
مع ذلك بقيت آلة القتل أشد فتكا، ولم يوقفها قلم العرعير، لذلك نشر في مقال عام 2021 كيف فقد في سنوات معدودة أكثر من ثلاثين شخصا من أقاربه. وعقب "طوفان الأقصى"، لم يصمت قلب الشاعر، وظهر أكثر من مرة في قنوات عالمية مثل "سي إن إن".
اكتمال الحكاية
اكتملت قصة رفعت العرعير بمقتله مع شقيقه وشقيقته وأولادها الأربعة، أصبح هو أيضا حكاية مع مئات الحكايات التي نشرها عمن سبقوه على طريق الآلام.
كانت اللغة الإنجليزية وسيلة للتحرر من الحصار، وجهاز نقل تحدى الأسوار الإسرائيلية والحصار الفكري والأكاديمي والثقافي لغزة"...
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها