"إن إسرائيل تطبق نظام فصل عنصريًا (أبارتهايد) بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة " نص هذا الإقرار البليغ القاطع لأدنى شك، العاكس للحقائق والوقائع على الأرض في فلسطين المحتلة، لم يصدر عن منظمة حقوقية دولية، كما أنه ليس تصريحًا لشخصية فلسطينية رسمية أو عربية أو أجنبية تراقب وتبحث في تطبيق الدول للقوانين والمواثيق الدولية، وإنما صدر عمن يمكن اعتبار كلامه ثمينًا جدًا، نظرًا لندرته، وجوهر مضمونه، ومكانته الاستثنائية لدى منظومة الاحتلال والاستيطان الصهيونية (إسرائيل).
إنه إقرار من رئيس الموساد الأسبق المتقاعد (تامير باردو) لوكالة "أسوشييتد برس" الأميركية، حيث جاء بصيغة اتهام لمنظومة دولته (إسرائيل) ونعتبره حدثًا مميزًا، رغم علمنا وعلم العالم بالحقيقة التي نطق بها، فباردو (الشاهد الملك) بهذا الإقرار قد صادق على ما قررته منظمة العفو الدولية في شهر شباط من العام السابق 2022 وضمنت تقريرها هذا النص "ينبغي مساءلة السلطات الإسرائيلية على ارتكاب جريمة الفصل العنصري ضد الفلسطينيين". حتى إن الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية أنياس كالامار نقل عنها في التقرير: "إن تقريرنا يكشف النطاق الفعلي لنظام الفصل العنصري في إسرائيل. وسواء كان الفلسطينيون يعيشون في غزة، أو القدس الشرقية، أو الخليل، أو إسرائيل نفسها، فهم يُعامَلون كجماعة عرقية دونية ويُحرمون من حقوقهم على نحو ممنهج".
وقبل منظمة العفو الدولية (أمنيستي) كانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" المدافعة عن حقوق الإنسان، ومقرها نيويورك، قد أصدرت تقريرًا في شهر نيسان/أبريل 2021 جاء في نصه :"أن إسرائيل ارتكبت جريمتين ضد الإنسانية باتباعها سياسة الفصل العنصري والاضطهاد بحق الفلسطينيين والمواطنين العرب" .
صحيح أن شخصيات سياسية وأمنية إسرائيلية بارزة قد ألمحت أو أعربت عن مخاوفها من تحول منظومة دولتهم إلى منظومة فصل عنصري، إلا أن درجة وضوح الطرح والصراحة الخارقة للمعتاد في حديث باردو لوكالة أنباء أميركية يدفعنا لإلقاء الضوء على التناقض المروع لدى ساسة المنظومة الذين يسارعون إلى تنصيب مقولة: "معاداة السامية" عند كل حديث عن جرائمها ضد الإنسانية وقوانينها وأعمالها التي ترقى إلى جرائم الفصل العنصري، لكن قبل الولوج لكشف تناقضات رؤوس المنظومة، من المفيد استكمال ما تحدث به باردو للوكالة الأميركية إذ قال :"هنا دولة فصل عنصري، على أرض يخضع فيها شعبان لنظامين قانونيين، فهذه دولة فصل عنصري وهذا توصيف لحقيقة بسيطة"؛ وأضاف: "أنه بصفته رئيسا للموساد، حذر نتنياهو مرارًا من أنه بحاجة إلى "تحديد حدود إسرائيل، أو المخاطرة بتدمير دولة اليهود"... ويذكرنا هذا الإقرار بما كان الرئيس محمود عباس أبو مازن قد قاله في اللقاء الرمضاني في مقر الرئاسة في رام الله بأن :"اسرائيل ستندم على استمرار احتلالها للضفة الفلسطينية وإنشاء مستوطنات فيها، كما ندم ساستها على إبقاء مئات آلاف الفلسطينيين بعد نكبة سنة 1948 حتى أصبحوا اليوم حوالي مليوني فلسطيني صامدون ومتجذرون في مدنهم وقراهم وبيوتهم".
وليس بعيدًا عن إقرار باردو، ما زال صدى انتقادات عميرام ليفين النائب السابق لرئيس الموساد في الأجواء، فهو القائل: "إن ما تشهده الضفة الغربية بعد 57 عامًا من الاحتلال هو أبارتهايد، والجيش الإسرائيلي بدأ التورط في جرائم حرب وفي عمليات عميقة تذكرنا بالعمليات التي حدثت في ألمانيا النازية"... وقدم ليفين أحد الشواهد والأمثلة بقوله حينها للقناة 12 الإسرائيلية :"إذا تجوّلت في مدينة الخليل سترى شوارع لا يستطيع العرب السير فيها، إنه أمر مؤلم، لكنه الواقع. من الأفضل لنا كإسرائيليين عدم تجاهل هذا الواقع كأنه لا يعنينا".
لم يُتَّهم تامير باردو، وعميرام ليفين بمعاداة السامية، وهذا طبيعي لأنهما يهوديان ولا يمكن وصفهما بالمعادين للسامية، لأن المنظمة الصهيونية ما زالت حتى اللحظة منشغلة بتحويل اليهودية (دين) إلى (عرق وقومية) الأمر الذي لن ينجح أبدًا، لأن الانجراف في تيار العنصرية في هذه الحالة واقع حتما، لكن الليكود - حزب نتنياهو الحاكم – اكتفى بتوجيه لوم لباردو معتبرًا إقراره: "تشهيرًا بإسرائيل أمام الرأي العام الدولي" ونلاحظ أن اللوم هذا ينطوي على إقرار جزئي بالحقيقة التي كشف عنها باردو، فالليكود لم يكذبه، وإنما اعتبر تصريحاته بمثابة كشف عن المستور برداء الديمقراطية الإسرائيلية الذي بات شفافًا وأرق من ورق لف السجائر!!.. لكن بمراجعة لمواقف ساسة المنظومة الصهيونية العنصرية من تقرير العفو الدولية نجد تصريحًا لوزير الخارجية الإسرائيلي حينها يائير لابيد قال فيه: "إن أمنيستي تستشهد بأكاذيب تنشرها منظمات إرهابية"، وأضاف: "إن التقرير ينكر عمليًا بشكل مطلق حق إسرائيل في الوجود" .. أما من جهتنا فلا بد بعد تصريحات باردو من توجيه هذه الأسئلة لرؤوس منظومة الاحتلال والاستيطان الصهيونية الدينية العنصرية (إسرائيل): هل أصبح باردو عضوًا في تنظيم فلسطيني ما؟
وهل بإقراره المتطابق تمامًا بل والأكثر وضوحًا من أمنيستي قد أنكر حق إسرائيل في الوجود؟ وهل سيتهم بالخيانة العظمى، باعتبار أن تصريحاته وهو الرئيس السابق للموساد ستفتح المجال واسعًا أمام الجنائية الدولية لمحاكمة (إسرائيل) وفقا لمطالبة العفو الدولية (أمنيستي) في تقريرها الذي دعت في نصه الجنائية الدولية للنظر في "جريمة الفصل العنصري" في سياق تحقيقاتها الحالية في الأراضي الفلسطينية، كما ناشدت جميع الدول ممارسة الولاية القضائية الشاملة وتقديم "مرتكبي جرائم الفصل العنصري إلى العدالة ".. ؟
فيائير لابيد قرر أن أمنيستي ما تجرأت على إسرائيل إلا لأنها (دولة يهودية)، وجاء الصدى من رئيس المؤتمر اليهودي العالمي رونالد لودرو الذي قال: "إن إسرائيل مستهدفة باعتبارها الدولة اليهودية الوحيدة"! ونسأل ولا نريد منهم جوابًا: هل قول الحقيقة والجرأة في التحقيق والبحث والكشف عن حقائق ووقائع سياسة إسرائيل العنصرية الإرهابية والإجرامية يأتي من غير اليهود فقط؟!
أم أن باردو الذي تجرأ على اتهام دولته (إسرائيل) بتطبيق نظام عنصري ليس يهوديًا ولم يعد مؤمنًا بإسرائيل (دولة يهودية)؟! .. حقًا إن قضية ومشكلة الإجابة على سؤال من هو اليهودي؟! فالتمييز بين الصهيونية واليهودية ما زالت تتفاعل في مرجل يغلي بفعل نيران عنصرية منظومة الاحتلال الاستعماري والاستيطاني.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها