لا يجوز حصر موضوع الهجرة من محافظات قطاع غزة خصوصًا وفلسطين عمومًا من زمن الانقلاب الحمساوي الذي تم عام 2007، لأن الضرورة تملي العودة للخلف بعجالة سريعة ومكثفة، لوضع الإصبع على الجرح الفلسطيني، الذي يتمثل بالهدف الناظم والأساس للحركة الصهيونية والغرب الاستعماري، والذي عكسه شعار "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"، أي تفريغ الأرض الفلسطينية من أبنائها وشعبها عبر وسائل تطهير عرقي مختلفة لبلوغ الهدف الأساس لمؤتمر كامبل نبرمان 1905/1907، ووعد بلفور 1917 وغيرها من القرارات ذات الصلة بنفي وطرد الشعب الفلسطيني من وطن الآباء والأجداد. ولهذا حالت دول الغرب الرأسمالي دون وجود الدولة الفلسطينية وفقًا لقرار التقسيم الدولي 181، وما زالت ترفض حتى الآن الاعتراف بها. رغم مرور ما يزيد عن 75 عامًا على النكبة، واعترافها بخيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967 شكليًا، كونها لم تقرن الإقرار بحل الدولتين بالفعل والترجمة على الأرض الفلسطينية، وما زالت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي ومن يدور في فلكها في دوامة إدارة الأزمة، وكسب الوقت لإتاحة الشروط المناسبة لإسرائيل لتحقيق عملية ترانسفير واسعة، منها ما يجري منذ عام 2007 حتى الآن.
إذن انقلاب حركة حماس على الشرعية أواسط 2007 لم يكن عبثًا، ولا يهدف لتصعيد المقاومة، إنما لإخماد المقاومة عبر تحقيق أكثر من هدف، منها: أولاً تمزيق وحدة الشعب السياسية والاجتماعية والثقافية، الذي حسبما أعتقد، لا يوجد شعب في العالم أكثر تجانسًا في بنيته وخلفياته الاجتماعية والعرقية والدينية والثقافية من الشعب الفلسطيني؛ ثانيًا التفتيت على الأساس الجهوي والمناطقي وعبر بوابة الإسلام السياسي الوظيفي، من خلال جماعة الإخوان المسلمين وفرعها الفلسطيني؛ ثالثًا تفريغ قطاع غزة من سكانه، باعتماد سياسات تدميرية لمقومات صمودهم الأساسية التعليمية التربوية، وإدخالهم دائرة الحصار والسجن الكبير، وتجفيف سوق العمل تدريجيًا، وإفلاس قطاع الصناعة والزراعة والتجارة ورأس المال الوطني عموما قدر ما يستطيع قادة الانقلاب، وبزيادة وتوسيع الضرائب لنهب جيوب المواطنين من مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية، ونشر الظواهر الاجتماعية الخطيرة مثل: المخدرات والموبقات الاجتماعية الأخرى، وتأبيد خيار الإمارة على حساب المصالحة الوطنية؛ رابعًا إبقاء قطاع غزة بؤرة حرب مفتوحة بذريعة "تصعيد المقاومة" والحقيقة تتمثل في زيادة عدد الضحايا والجرحى والإفقار والتدمير للبنى التحتية، وتلوث المياه والبيئة، وتفشي الأمراض والأوبئة في أوساط الشعب لزيادة حالة السخط والغضب والرحيل في آن من الوطن للمنافي أو للموت في أعالي البحار...إلخ من تعميم وتأصيل للظواهر الاجتماعية القاتلة.
نجم عن ذلك، زيادة نسبة البطالة وخاصة في أوساط الشباب، حيث بلغت ما يزيد عن 74%، وبعض المصادر تقول 80%، وبعضها يعتقد أقل نسبيًا، ونقص حاد جدًا في سوق العمل، وندرة الوظائف لاستقبال الخريجين الجدد، انعدام الأمن الغذائي والاجتماعي والسياسي والثقافي والوطني عمومًا. ووفق تقديرات العديد من المؤسسات، فإن نسبة الذين اضطروا للهجرة من القطاع يصل تقريبًا لحوالي 15% من مجموع سكان القطاع خلال الأعوام السبعة عشر الماضية، ووصل عددهم حسب بعض الإحصاءات غير الدقيقة لما يزيد عن 300 ألف مضطر للهروب من دوامة الانقلاب الأسود، ويعضها يقول وصل عدد الهاربين ما يزيد على الـ 800 ألف مواطن، لقي ما يقارب الـ 400 شاب حتفه في أعالي البحار، وحسب بعض استطلاعات الرأي، فإن نسبة الراغبين بالهرب من القطاع يصل إلى 37% من مجموع السكان، الذين يبلغ عددهم حاليًا 2,3 مليون نسمة.
إذن الانقلاب الحمساوي الأسود، كان جزءًا من مخطط أشمل وأعم لخدمة المخطط الصهيوني الأساس، أي ترجمة التطهير العرقي بوسائل وأدوات أخرى منها الأداة الفلسطينية المأجورة، والمرتهنة تاريخيًا لمشاريع الغرب الاستعماري. ولهذا دافع بنيامين نتنياهو عن الانقلاب، وعمل على إيصال الأموال عبر مطار اللد بالشنط القطرية لهم، وما زال قادة إسرائيل من مختلف التلاوين الصهيونية يعملون على تلميع ودعم قيادة الانقلاب الإخوانية. لأن إمارتهم مصلحة استراتيجية تخدم الشعار الناظم للحركة الصهيونية.
ومخطط التهجير، الذي يبدو طوعيا بالشكل، ولكنه في الجوهر تهجيرًا إرغاميًا ومفروضًا للأسباب المذكورة آنفًا، لا يقتصر حصره على قيادة الانقلاب في محافظات الجنوب، وإنما هناك قوى أخرى تساهم فيه بشكل غير مباشر، من خلال منح تأشيرات للشباب الفلسطيني لدخول بلدانهم، والمؤسف أن الشباب يدفع ثمن هجرته الاضطرارية لأحد المكاتب التي يديرها قادة الانقلاب في قطاع غزة، وللمتنفذين على معبر رفح على الجانب الفلسطيني، وسماسرة تأمين التنسيق للسفر للخارج.
هذا الوضع المأساوي يتطلب وضع خطة عمل وطنية شاملة لمعالجة ظاهرة الهجرة الخطيرة، التي تستهدف الوجود الفلسطيني في أرض الوطن، أولاً بفرض خيار الوحدة، ثانيًا طي صفحة الانقلاب، ثالثًا توسيع وزيادة فرص العمل داخل حدود السوق الفلسطيني، وبالتعاون مع الأشقاء العرب، وغيرها من الأسواق دون إقران ذلك بالهجرة، رابعًا إعادة نظر في المنهاج الجامعي والتعليم المتوسط بحيث يتم فتح أبواب المهن الصناعية بمختلف مجالاتها أمام قطاع واسع من الشباب؛ خامسًا إعادة نظر في التوزيع الديموغرافي بين المحافظات الفلسطينية، وإسكان الشباب في المناطق (C) وفق خطط وطنية شاملة، لفرض السيادة على المنطقة. وهناك بالضرورة مشاريع وخطط أشمل وأوسع مما ذكر هنا. لكن يبقى العنوان الأساس وقف هجرة الشباب الفلسطيني خارج الوطن. لأن الصمت على ذلك، يحمل الجميع المسؤولية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها