طالما أن الاتحاد الأوروبي ما زال يمضي باتجاه الولايات المتحدة ويتبع نمط سياساتها الخارجية حول معظم قضايا العالم ومنها قضيتنا الفلسطينية، فلا يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يتمتع باستقلالية القرار السياسي وتحديدا في شأن قضية شعبنا والموقف الحازم المطلوب من دولة الاحتلال، طالما لا يمكن له التخلي عن البقاء في فلك السياسات الأمريكية الخارجية في ظل استمرار وجود صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وحلف الناتو الذي تحدد سياساتهم الولايات المتحدة، كما ووجود احزاب اليمين الحاكمة بالقارة العجوز.
فمنذ نهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر الاشتراكي الشرقي فقد استقر النظام العالمي ذو الاحادية القطبية من خلال كل أشكال الهيمنة بقيادة الولايات المتحدة التي فرضت سياساتها ومواقفها على حلفاؤها وتحديدًا على دول الاتحاد الأوروبي والتي باتت اليوم تعاني من هستيريا متصاعدة أمام ازمة النيوليبرالية الجديدة من جهة، وانعكاسات خروج بريطانيا من الاتحاد من جهة اخرى وتداعيات حرب الناتو بالوكالة في اوكرانيا والعقوبات الأمريكية - الأوروبية - الأطلسية على روسيا كما بالتهديدات ضد الصين من جهة ثالثة، والتي تنعكس على شعوب اوروبا التي باتت تدفع ثمنا غاليا لقاء ذلك بما له علاقة بالطاقة والاوضاع الاقتصادية المنهارة وخروج المظاهرات الشعبية على أثر ذلك بالمدن الأوروبية ضد سياسات واجراءات حكوماتها التي تسيطر عليها احزاب اليمين أو يمين الوسط المحافظ ، بغض النظر عن الخلافات التي بدأت بالظهور بين عدد من دول الاتحاد الأوروبي والتي باتت تهدد استمرار وجود هذا الإطار الاقتصادي السياسي.
في خضم كل هذه التداخلات السياسية والاقتصادية والتحولات الدولية الجارية بالعالم نحو انتظار نهاية النظام الاحادي القطبية مع صعود لاعبين دوليين جدد يمهدوا لنظام دولي متعدد، كما وصعود قوى اليسار في معظم انتخابات القارة اللاتينية وأهمها البرازيل.
إلا أنه وبما يخص الغرب ووفق نتائج انتخابات جرت بالعديد من دول الاتحاد الاوروبي فيه كان آخرها الأنتخابات البرلمانية اليونانية الاسبوع الماضي التي ادت الى تقدم اليمين المحافظ وصعود حزب يميني شعبوي جديد فيها أمام تراجع قوة حزب المعارضة اليساري الرئيسي فيها ومحدودية حجم الأحزاب اليسارية الأخرى التي لم تستطيع بمجموعها أن تشكل أغلبية برلمانية بالوقت الذي تمكنت منه بسنوات سابقة ، علما بان الناخب اليوناني سيذهب مرة أخرى لانتخابات جديدة وفق الدستور الشهر المقبل حزيران سندا لنظام معقد نتيجة عدم تمكن اي من الأحزاب بتشكيل حكومة الآن.
كما أن فوز اليمين في عدد من الدول الاوروبية امام تراجع احزاب اليسار فيها
نتيجة تداعيات أزمة عدم وحدته على قاعدة القواسم المشتركة واختلاف تفسيرات الهوية الفكرية لليسار الأوروبي ودوره بالمرحلة الراهنة ، اضافة الى الضغوطات التي تعرضت لها حكومات الاحزاب اليسارية باوروبا من طرف امريكيا والبنك الأوروبي كما والتدخلات الإسرائيلية ، هي بعض الاسباب التي تفسر فوز اليمين باليونان ودول اوروبية اخرى ، بإستثناء عدد من الدول القليلة الآن ، بعد أن كانت احزاب اليسار الأوروبي متقدمة بالعديد منها بالسنوات الماضية . هي تطورات تعيق إمكانية لجم تمدد اليمين الأوروبي وتفتح المجال أمام إمكانية وصول اليمين المتطرف والشعبوي وقوى النازية الجديدة إلى الحكم في تلك الدول وغيرها من دول أوروبا الشرقية ، وتتيح المجال أمام استمرار حكم أحزاب اليمين ويمين الوسط فيها ، الأمر الذي يعيق وجود سياسات واضحة وصريحة تجاه مناهضة الأحتلال الإسرائيلي ويمنع اعتراف دول الاتحاد الأوروبي بدولة فلسطين وفق توصيات العديد من برلمانات تلك الدول ويبقيها حبرا على ورق اذا ما استمر حكم أحزاب اليمين فيها.
ومن جهة أخرى فإن استمرار هذه الازمة البنيوية لليسار الأوروبي بمختلف تياراته طالما لم توحد جهودها ، يُبقي تلك الدول الأوروبية تدور في فلك سياسات الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تريد خروج أوروبا عن تبعيتها السياسية لها والتي ترسمها الدوائر الحاكمة هنالك وتحديدا منها مجمعات الصناعات العسكرية وراس المال بهدف حماية سياسات الهيمنة الأمريكية ومصالحها التي ما زالت تسيطر على العديد من دوائر صناعة القرار بأوروبا وخاصة منها اليمين واصحاب الفكر النيوليبرالي المتوحش تجاه قضايا الشعوب الاجتماعية وحرياتها وعدالتها.
السؤال الان ، كيف سينعكس هذا على واقع التضامن مع قضيتنا الوطنية الفلسطينية بالوقت الذي وقف به اليمين الاوروبي بشكل عام تاريخيا إلى جانب السياسات الإسرائيلية منذ نشأتها الاستعمارية رغم اعتدال بعض شخصياته ، وكيف لنا مواجهة ذلك من أجل تعزيز التضامن مع الشعوب الأوروبية والتأثير على سياسات الاتحاد الأوروبي التي تميزت وتمثلت مؤخرا في ما قالته أورسلا فان دير لين مؤخرا بخصوص دفاعاها الممنهج عن دولة الاحتلال في ذكرى استقلالها المزعوم ؟
وقبل أيام لم تتوانى احزاب اليمين بالبرلمان البرتغالي من اتخاذ قرار بمساندة ودعم السياسات الإسرائيلية في سابقة هي الأولى على مستوى البرلمانات الأوروبية ، كما انسحاب عشر من الدول الأوروبية التي تحكمها احزاب اليمين من حفل أحياء ذكرى النكبة الذي إقامته الأمم المتحدة الاسبوع الماضي ، كما وإقامة حفل بالبرلمان الإيطالي بحضور رئيس الكنيست الإسرائيلي ورئيس البرلمان الإيطالي الذين افتتحا معرضا فنيا مشتركا تحت عنوان "75 عاما على تأسيس إسرائيل وعلى التاريخ والديمقراطية البرلمانية المشتركة" ، وإقامة حفل خاص في وزارة الدفاع اليونانية بهذه المناسبة بحضور وزير جيش دولة الاحتلال إضافة إلى منع إقامة فعاليات ذكرى النكبة بالمانيا وغيرها من أشكال التقارب والتعاون المشترك في مجالات متعددة ومنها العسكري والامني بين دول الاتحاد وإسرائيل خاصة في شرق المتوسط بالإضافة إلى قطاع الطاقة والغاز وإنشاء تحالفات برعاية الولايات المتحدة .
هذا اضافة الى دور احزاب اليمين بالبرلمان الاوروبي التي تميزت بازدواجية المعايير والنفاق السياسي الذي يخدم سياسات ومواقف دولة الأحتلال وانحيازها المطلق لمقولات "ديمقراطية اسرائيل" و "مساواة الضحية بالجلاد" و "حق اسرائيل بالدفاع عن نفسها"... !
أن ذلك يجري الآن بسيطرة احزاب اليمين بعد أن كانت معظم البرلمانات الأوروبية بين أعوام ٢٠١٥ حتى ٢٠١٨ قد اتخذت قراراتها اما بالإجماع كما تم باليونان أو بالاغلبية في دول أوروبية أخرى بما فيها بريطانيا والبرتغال وإيطاليا وغيرها على سبيل المثال بدعوة حكوماتها الاعتراف بدولة فلسطين كما فعلت السويد التي بات الآن يحكمها اليمين الذي يعرب عن نواياه بالتراجع عن ذلك ارضاء لإسرائيل . هذا إضافة إلى وجود اليمين المتطرف في بعض الدول الأوروبية مثل هنغاريا والتشيك اللتان تمنع صدور اي قرار بادانة سياسات دولة الأحتلال بالاتحاد الأوروبي وتعرب عن نيتها نقل سفاراتها للقدس بين الفينة والاخرى.
أن هذا الفوز وصعود اليمين الأوروبي بإستثناء بعض حالات الدول التي تَوحدت اقطاب اليسار فيها بمن فيهم الشيوعيين والاشتراكيين والخُضر تحت مسمى اليسار الجديد في فرنسا مثلاً التي شكلت كتله هامة داخل برلمانها.
أن صعود اليمين سيساهم في ابقاء الأزمة الاقتصادية وتفاقمها وحالة التقشف الاقتصادي بما ليس له علاقة بالمصالح الحقيقية للشعوب الاوروبية وفق سياسات اليمين النيوليبرالي الأوروبي الاقتصادية والاجتماعية ، كما يخدم أيضا استمرار بعض سياسات اليمين المتطرف والشعبوي بشأن الهجرة وبعض اشكال التمييز العنصري وغيرها من القضايا المطروحة إلى جانب دعم السياسات الأمريكية في أوكرانيا وما له علاقة بمعاداة الشرق عموما ودعم سياسات دولة الاحتلال.
ما يواجه الإسرائيليين في المقابل من تحد حقيقي يتمثل في تمدد معسكر اليسار الممكن باوروبا والعالم ، وهي ليست أقل من مشكلة معاداة السامية التي ابتدعتها الحركة الصهيونية ، فاحزاب اليسار الأوروبي تشجع حركة المقاطعة والمواقف المعادية لإسرائيل بصورة متجذرة وخاصة نظام الابرتهايد واستمرار الأحتلال الاستيطاني . والخطورة الان في أن جميع مواقف اليمين الاوروبي المؤيدة لإسرائيل ممكن تمريرها رسميا بهدوء ودون رد فعل سوى من تحديات القوى الشعبية والجماهيرية الصديقة هناك .
ويبقى السؤال ، إلى أي مدى سنكون نحن مستعدين لعلاقات أوسع مع تلك الحركات الشعبية الجماهيرية التي تتسم بروح يسارية تقدمية كما وحركات التضامن الأوروبية وحركات المقاطعة ودعمها بما نستطيع لتمكينهم لأن يكونوا فعالين في معادة دولة الأحتلال الأستعماري ووجهها العنصري ، وأن نساهم معهم في خلق جبهة دولية معادية للابرتهايد ومن أجل تعليق عضوية دولة الاحتلال بالأمم المتحدة ، الأمر الذي يتطلب منا أنفسنا تجديد سياساتنا ومواقفنا من ذلك الأمر لتقديم إسرائيل كدولة تمييز عنصري استعماري أمام العالم ، وانفسنا كحركة تحرر وطني في سبيل الوصول الى حقنا بتقرير المصير والاستقلال الوطني وبخطاب مقاوم جريء وواضح الذي يحتاج العالم لاستمرار سماعه منا.
كما علينا المثابرة واحداث اختراقات بشجاعة سياسية كفاحية ضد ابشع احتلال وحركة عنصرية و مواجهة سياسة دولة الاحتلال الكولنيالي ورؤية الصهيونية باستغلال القضايا الدينية والقضايا المرتدة عليهم بخصوص المعادة المزعومة للسامية.
علينا العمل بالمحافل و الساحات الأوروبية السياسية الرسمية و الشعبية وتوسيع قاعدة الأصدقاء دون خسارة احد ، كما والنظر بإيجابية إلى التكتلات الاقتصادية والسياسية الجديدة الناشئة بالعالم اليوم بعيدا عن الهيمنة الأمريكية المطلقة التي ما زالوا يحاولون فرضها واخذنا إلى سراب مربعها بإدارة الصراع دون حله.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها