يحتفل رؤوس الغزو والاحتلال والاستيطان الفاشيين باليوم المشؤوم في تاريخ الإنسانية والعالم السياسي، يستعيدونه بمراسم واستعراضات رسمية، وكأنهم بهذه الاحتفالات يسعون لتعمية بصيرة كل إنسان مؤمن بالحرية والحقوق الإنسانية في العالم، لتمرير روايتهم المتناقضة أصلا مع التاريخ والجغرافيا والثقافة الإنسانية والمعرفة والعلم، وقانون الأرقام، فما يحتفلون به ويستذكرونه ليس يوم استقلال، وإنما يوم جريمة تاريخية بحق الإنسانية، يرسخون في أذهان أجيالهم قانون الغاب والهمجية، ببث مقولات سفك الدماء والقتل من أجل البقاء تحت شعار عنصري: "نقاتل بسيف الرب" وتبرير الإرهاب الصهيوني وفاشية المستوطنين وجرائم جيشهم وحكوماتهم بذريعة الحفاظ على أمن إسرائيل... لكن ما علينا فعله هو إثبات مسارهم المعاكس لمسار الزمن والسلام، فإن كانت (النكبة) وهي جريمتهم التاريخية والمستمرة حتى اللحظة بحق الشعب الفلسطيني والأمة العربية، قد اعتبروها انتصارا و"استقلالا"، وهذا بحد ذاته جريمة بحق الثقافة الإنسانية، لأنهم يرفعون الانتصار والاستقلال على قواعد الجريمة والإرهاب الدموي العنصري، فإن إيماننا بيوم النصر والعودة الحتمي لم يتزحزح قيد شعرة، فها هم عشرات آلاف الشباب الفلسطينيين، الفخورون برفرفة علم فلسطين فوق رأس كل منهم تحت قبة سماء وطنهم التاريخي، يلتحفون كوفية أجدادهم التاريخية في مسيرة العودة نحو (قرية اللجون) المهجرة في قضاء حيفا، التي ارتقى منها 21 شهيداً دفاعاً عن قريتهم، عندما قاوموا منظمات صهيونية مسلحة إرهابية هاجمتها سنة 1948، قبل تهجيرهم منها ولجوئهم إلى أم الفحم شمال فلسطين.. فالشعب الفلسطيني كما قال محمد بركة لن يغادر التاريخ، ما يعني أنه لم ولن يغادر الوطن، ما يعني أن يوم الحرية والاستقلال والعودة للشعب الفلسطيني وجها الحقيقة الأزلية على أرض فلسطين.
المشروع الاستعماري الصهيوني كان وما زال حملة استعمارية لا تختلف كثيرا عن الحملات الاستعمارية العسكرية الخارجية الأجنبية السابقة على فلسطين وأقطار عربية ومنها على سبيل المثال الحملة الأوروبية العسكرية المعروفة (بحروب الفرنجة) وفي تعريف آخر (الحرب الصليبية) رغم رفض الوطنيين والعروبيين والمؤرخين لهذا المصطلح، لما فيه من استخدام للدين لدى الغزاة المستعمرين، ولدى جماعات دينية في منطقتنا العربية معنية بنشر الرواية التاريخية وفق منظور خادم لتعاميمها ومفاهيمها السياسية! فالصهيونية أداة استخدمتها الدول الاستعمارية لتحقيق هدفها لإخضاع المنطقة، ولم تكن في يوم من الأيام حركة تحرر كما ادعى وما زال يدعي رؤوسها اليوم، ولأن الفلسطينيين السامريين واليهود على حد سواء كانوا مواطنين كغيرهم من المواطنين الأحرار في اعتناق واتباع شريعتهم الدينية، علما أن الدراسات والأبحاث التاريخية بينت أن رقم المواطنين اليهود قبل وعد بلفور سنة 1917 ما زاد عن 3%، إلى جانب اليهود التي أحضرتهم دول استعمارية من أوروبا منذ سنة 1850 تمهيدا لإنشاء تجمعات (مستوطنات) يهودية خادمة لمشاريعهم الاستعمارية، ورغم جرائم الحرب ضد الإنسانية التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني وتهجير أكثر من (950 ألف) مواطن سنة النكبة 1948، إلا أن رقم المواطنين الفلسطينيين الآن على أرضهم التاريخية والطبيعية في مدن الساحل والجليل والنقب والقدس والضفة وغزة يكاد يكون مساويا لرقم سكان (دويلة منظومة الاحتلال إسرائيل) إذ بلغ رقم المواطنين الفلسطينيين حسب تعداد الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني سنة 2022 أكثر من (7.1 مليون) نسمة.
السؤال الأهم في هذه اللحظة، كيف تسوق منظومة الاحتلال الصهيونية العنصرية ما يسمى "يوم الاستقلال" ويحتفلون به حسب تقويم السنة العبرية، فيما رقم المواطنين الفلسطينيين الذين لم يغادروا فلسطين والذين طبقوا حق العودة بإيمان واقتدار وسياسة حكيمة، مع اللاجئين في أقطار عربية وأجنبية قد بلغ إن لم يبلغ ضعفي رقم سكان المنظومة، فالشعب الفلسطيني حسب أحدث إحصائيات أكثر من (14.3 مليون) نسمة، فكيف يكون استقلالا وكل عاقل في هذا العالم يعلم أن الغزوات الاستعمارية مهما طال أمدها حتى لو بلغت مئة عام أو أكثر ستنتهي بوجود أصحاب الأرض الأصليين، مهما توسعت عمليات الاستيطان على حساب أرض أصحابها الأصليين، وفظاعة الجرائم والمجازر بحق أجيالهم، ولعلنا نستذكر شقيقتنا العربية الجزائر، وصديقتنا جنوب أفريقيا كنموذجين، هذا رغم اعتقادنا أن صراع الأرقام لم يحسم بعد، لكن يجب ألا يغيب عن أذهاننا ولو للحظة، أن كل اليهود (وغير اليهود) الذين اقتلعوا من مواطنهم الأصلية يجب أخذهم في معادلة الصراع، فهؤلاء أولا وأخيرا غرباء عن تاريخ وحاضر ومستقبل فلسطين، ولا انسجام بين ثقافاتهم الموروثة من شعوبهم الأصلية التي كانوا جزءا منها، ومن المفيد الإشارة إلى الهجرة العكسية للأوروبيين اليهود، الذين اكتشفوا حقيقة المشروع الصهيوني الاستعماري العنصري، ولم يعد لديهم القدرة على العيش في مجتمع دولة لا أمن فيها ولا استقرار بسبب مقاومة الشعب الفلسطيني ومواجهته المستمرة لسياسات حكوماته المتعاقبة القائمة على توسيع الاحتلال والاستيطان ورفع مؤشر الجرائم والمجازر بحق الشعب الفلسطيني، وبهذا المقام لا بد من إعادة تذكير الأشقاء في الدول العربية بضرورة العمل على تشريع قوانين تعيد للمواطن العربي اليهودي حق العودة إلى بلده الأصلي، مثلما تناضل قيادة الشعب الفلسطيني بتثبيت حق العودة للاجئين الفلسطينيين غير القابل للمساومة أو السقوط، ليس من عقل وقلب وذاكرة كل فلسطيني ما زال حيا منذ النكبة، أو الأحفاد الذين ورثوا مفاتيح بيوت أجدادهم، وما زالت صورة أراضيهم الطيبة وجنانها تحيي الأمل فيهم بالعودة، وبرؤية انتصار ولو واحد لشرعية القانون الدولي.
المصدر:الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها