على مر التاريخ دافعت الجماعات البشرية بمكوناتها المختلفة وفق تطور علاقات وقوى الإنتاج في الحقب التاريخية وصيرورتها عن نفسها في مواجهة الآخر الغزاة، أو هاجمت الأقوام والجماعات المجاورة بحثًا عن الكلأ والماء، أو لتعزيز مكانتها في الجغرافيا المشتركة. وتطورت أشكال الصراع الداخلي والخارجي ارتباطًا بتطور الجماعات البشرية، إلى أن تحررت من مراحل العبودية والأقنان الاقطاعية، وتمكنت من إقامة صروح الشعوب القومية بالتلازم مع بناء أسواقها الاقتصادية مع صعود البرجوازية، ومازالت البشرية رغم ديمومة الحروب والحروب المضادة تصنع معادلاتها ارتباطًا بأهداف ومصالح كل شعب، صغيرًا كان، أم كبيرًا، ضعيفًا أم قويًا، جزءًا من دول المركز أم من دول المحيط. 

لكن كل الشعوب الأصلانية مهما وهنت قوتها، واستبيحت دولها، ونهبت ثرواتها، وفرض الاستعمار القديم والجديد عليها حمت هويتها من التبديد، وتشبثت بها في مختلف مراحل الصراع مع الآخر المستعمر أي كانت طبيعة استعماره، ونهلت منها قوة بقاءها، وديمومة حضورها على مسرح الحياة، وادراكًا منها عبر تجربتها، ومن تجارب الشعوب الأخرى، أن كل أشكال الاستعمار إلى زوال مهما طال الزمن أو قصر. 

خلفية ما تقدم، مقولة استخدمها صديق عزيز رددها بثقة مفادها أن "الشعب الحيوي في المنطقة، هو الشعب الإسرائيلي!" وأعاد السبب إلى ما يجري داخل دولة التطهير العرقي الإسرائيلية من صراع بين الموالاة والمعارضة المتواصل من 14 أسبوعًا خلت. وبصراحة لم أناقش صديقي لاعتبارين الأول، كنت استعد لمغادرة المكان بسبب ارتباط آخر؛ الثاني النقاش حول هذا الاستنتاج يحتاج إلى استفاضة ووقت كبير. لذا قررت أن أكتب حتى يكون ردي أكثر تعميمًا على كل أصحاب وجهة النظر آنفة الذكر. 

ومن البداية أود التأكيد على أكثر من عامل ذات صلة باستنتاج صديقي، أولاً رغم مرور 75 عامًا على تأسيس وقيام إسرائيل، ووجود علم ونشيد وجيش ومؤسسات ووزارات حكومية وقضاء وبرلمان للدولة اللقيطة، إلا أنها لم تتمكن من خلق شعب على أرض فلسطين التاريخية، لأن المجموعات البشرية التي جاؤوا بها، مازالت أسيرة اثنياتها الام، وهي عبارة عن عصابات من المرتزقة تحكمها مرجعياتها الكولونيالية، وتوحدهم الشكلي طيلة العقود الماضية قام ارتكازًا على تحقيق مآربهم النفعية، ومصالح اسيادهم، وظلوا في دائرة الأداة الوظيفية. وبالتالي كما قال البرفيسور اليهودي، شلوم ساند في كتابه "اختراع الشعب اليهودي" هذا الخليط الاثني والديني والطائفي والمذهبي، هو إختراع مشترك تضافرت وتكاملت فيه مصالح الغرب الرأسمالي مع زعماء الحركة الصهيونية لتحقيق مآربهم المالية الاقتصادية والسياسية العسكرية والدينة في آن، وقاموا بانتزاع اتباع الديانة اليهودية من بين ظهراني شعوبهم في أوروبا تحديدًا، وقبل وجود النازية الألمانية بعقود، وزجوهم فيما أطلقت عليه الحركة الصهيونية "أرض الميعاد" تنفيذًا لمقولة وشعار اكثر رجعية وفاشية ارتكز على عمليات التطهير العرقي والنفي الكامل للشعب الأصلاني، أي الشعب العربي الفلسطيني "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"، وأقاموا الدولة اللا شرعية على انقاض نكبة صاحب الأرض والتاريخ والهوية الوطنية المنغرسة في الوطن الفلسطيني منذ وجود الإنسان الأول في فلسطين قبل أكثر من عشرة آلاف عام؛ ثانيًا صناع دولة المشروع الصهيوني الأساسيين، هم الاشكناز الغربيين، أي يهود الخزر (القبيلة الثالثة عشر) الذين لا صلة لهم بالسامية ولا بالأسباط الإثني عشر وتفرعاتهم، وأتيانهم باليهود العرب ومن قارات العالم الأخرى (السفارديم)، لم يكن حبًا، ولا نتاج الانتماء المشترك، إنما لاستغلالهم في العمل الأسود، ليكونوا عبيداً وأجراء، وأداتهم في تنفيذ مخططاتهم الاستعمارية ومجازرهم الإجرامية ضد أبناء الشعب الفلسطيني وغيرهم من العرب. لأن الهدف كان ومازال تمزيق وحدة شعوب الأمة العربية، ونهب ثرواتهم والحؤول دون وحدتهم وتطورهم، ولهذا كل ما تابع الحروب الامبريالية الأميركية الأوروبية على الوطن العربي لمس وبما اعلنوه بالسنتهم، وبوثائقهم، أنهم يخوضون حربًا لإبادة العرب كأمة، ولتحقيق باقي الأهداف الكولونيالية، ولتسييد إسرائيل عليهم، وتحقيق الأساطير والخزعبلات الدينية في بلوغ حرب يأجوج ومأجوج، ومجيء المسيح المنتظر، وفناء اليهود؛ ثالثًا أما الصراع الدائر بين مكونات المجتمع الإسرائيلي، فهو صراع بين الاشكناز المؤسسون للدولة، والسفارديم الاتباع العبيد، الذين يصارعون على مركز القرار في الدولة، وليس صراعًا على النظام السياسي القائم فحسب، وبالتالي الصراع ليس تناقضًا طبقيًا اجتماعيًا، ولا صراعًا قوميًا، إنما صراع على النفوذ، ومن يحكم الدولة اللقيطة، بين مجموع العصابات المكونة لها. لا سيما وأن المتدينيين والحريديم باتوا يشكلون قرابة نصف اتباع الديانة اليهودية الموجودين في إسرائيل، وهم عالة على الدولة، وتنتشر في صفوفهم الامية والارتجالية والعصبية الدينية المتزمتة والتعاليم اللاهوتية الخرافية، والتطرف الفاشي، وكون الاشكناز يرفضون من حيث المبدأ تغير المعادلة والانقلاب على منظومة الحكم السائدة خلال ال75 عامًا الماضية، لذا صبوا كل طاقاتهم وثقلهم في الشارع لاعادة الاعتبار لموقعهم ومكانتهم، ولقناعتهم أن جزء من الاشكناز ومنهم نتنياهو باعوا انتماءهم للعصابة الأم، مقابل الحسابات الشخصية الضيقة، وبالتالي اخرجوهم من دائرة العصابة والشراكة. ولهذا أيضًا دعمت الولايات المتحدة الاشكناز، وتقف بقوة خلفهم، لأنهم الأقدر على المحافظة على الدولة الأداة الوظيفية لأطول فترة ممكنة، وبالتالي الأقدر على حماية المصالح الحيوية الأميركية، والعكس صحيح في حال سيطر السفارديم على الحكم، فإنها ستكون في حالة حرج وارتباك، وستضطر لادانتها نتاج فجاجة ورعونة وهمجية العبيد السفارديم، رغم أنها مازالت حتى الآن تدافع عن الدولة الأداة، وتحاول بكل الوسائل مع الاشكناز على تقويض سيطرة الشرقيين اليهود. إلا أنها لاحقًا في حال سيطروا (السفارديم) على الدولة، فإن واشنطن سيكون لها موقف آخر. 

وعليه فإن الاستنتاج بحيوية ما يسمى الشعب الإسرائيلي، لا أساس لها من الصحة، ومنافية للقراءة الموضوعية، وبعيدة عن سبر أغوار خلفيات الصراع الدائر. وإذا كان هناك شعب حيوي، وممتلىء بالزخم والعطاء فهو الشعب العربي الفلسطيني، رغم كل النواقص والهنات والعيوب والمثالب والفساد الموجودة في أوساط النخب السياسية. وأنا لا اقارن بين الشعب الاصلاني العربي الفلسطيني وبين عصابات الغزاة الراحلين عما قريب، ولكن من باب المسؤولية العلمية والوطنية والقومية، ولهذا مجال نقاش في زاوية أخرى.