في خضم الصراع الدولي الدائر في جبهات عدة سياسية ودبلوماسية وعسكرية واقتصادية مالية وثقافية بين الأقطاب الدولية المختلفة لإعادة تشكل النظام السياسي العالمي الجديد وفق موازين القوى الحالية نتاج تراجع واضمحلال نظام القطب الأميركي الأوحد، ومع تآكل مكانة القارة الأوروبية العجوز على أكثر من مستوى وصعيد، وصعود القطبين الصيني والروسي إلى مستويات منافسة، ومع تنامي دور دول البريكس عالميًا، ولجوء الدول الأخرى الأقل تأثيرًا في المعادلة الدولية للتموضع في مقاعدها الخلفية مع حلفائها من الأقطاب المتصارعة، ومن بينها الدولة الوظيفية الاستعمارية الإسرائيلية، التي أنشأها الغرب الرأسمالي، وشكل الحاضنة الأساسية لها، ودعمها وما زال يدعمها بكل مقومات البقاء، هذه الدولة أعلنت دون مواربة وقوفها إلى جانب حليفتها الاستراتيجية الولايات المتحدة وأنصارها في الغرب ضد روسيا الاتحادية، وهذا ما صرح به صراحة يائير لبيد، حين كان وزيرا للخارجية بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا في شهر آذار/ مارس الماضي. رغم أنها (إسرائيل) حاولت المناورة، وادعاء الحيادية، حين قام نفتالي بينيت رئيس الوزراء السابق بزيارة موسكو أيضًا في ذات الشهر من العام الحالي للعب دور الوسيط. لكن سرعان ما انفضحت خلفيات الموقف الإسرائيلي، الهادف لتأمين هجرة اليهود الروس والأوكرانيين لإسرائيل، وهذا ليس خافيًا على رجل الكرملين الأول، وضابط المخابرات السوفييتية السابق (كي جي بي).
في ضوء هذا التطور، ومع تصاعد عمليات الفرز في أوساط دول العالم وانزياحاتها باتجاه مصالحها، لم تتوان الدول المنخرطة في الصراع عن التقرير في شكل ومحتوى النظام العالمي الجديد من توجيه صفعات محسوبة لدول الأطراف، وهو ما قامت به روسيا الاتحادية مؤخرا عندما طلبت وزارة العدل الروسية يوم الخميس الموافق 14 تموز/ يوليو الحالي تصفية الفرع الروسي للوكالة اليهودية "سوحنوت" المعنية بقضايا الهجرة إلى إسرائيل، وفي يوم الجمعة الموافق 15 تموز الحالي رفعت وزارة العدل لمحكمة "باسماني" الجزائية في موسكو دعوى لحل الفرع الروسي. وقالت الوزارة إن "الوكالة انتهكت القانون الروسي عبر أنشطتها. وسيتم النظر في الدعوى مبدئيا في يوم الخميس الموافق 28 تموز/يوليو الحالي.الامر وفق ما ذكر الموقع الإلكتروني للمحكمة المذكورة.
وللعلم الوكالة اليهودية تأسست عام 1929 لأكثر من مهمة، من أبرزها مهمة أساسية عنوانها استقطاب اليهود من أصقاع العالم بعد تضليلهم وترغيبهم بفكرة "أرض الميعاد"، أو من خلال عصا الإرهاب، الذي استخدمته لإرغام آلاف منهم للهجرة إلى أرض فلسطين العربية لإقامة ما وعد به وزير الخارجية البريطاني بلفور في الثاني من نوفمبر1917 بإقامة "الوطن القومي لليهود"، والذي تم تبنيه ودعمه أمميا من قبل عصبة الأمم في 24 /7/1922، ثم ورثته هيئة الأمم المتحدة وطبقته عبر قرار التقسيم الدولي 181 الصادر في 29 نوفمبر 1947. واخذت بالعمل في الاتحاد السوفييتي قبل انهياره في عام 1989، ولعبت دورا مركزيا في تهجير ما يزيد على المليون روسي مع غروب شمس الاتحاد السوفييتي وتفككه مطلع تسعينيات القرن الماضي.
الموقف الروسي الجديد والمحسوب، استهدف الخاصرة الإسرائيلية الضعيفة، ولم يقطع الخيوط والجسور مع الدولة الكولونيالية الإسرائيلية، لا بل أبقاها، لكن أركان إدارة بوتين شاءت قرص الأذن الإسرائيلية، وتنبيهها إلى إمكانية توسيع وتعميق العقوبات عليها على أكثر من مستوى وصعيد. الأمر الذي أثار ردود فعل إسرائيلية بدءا من لبيد، رئيس الوزراء الحالي، الذي قرر إرسال وفد لموسكو، لكن الدب الروسي أغلق الباب أمامه، ورفض استقباله، وهو ما يعني أن بلاد القيصر ستمضي في دحرجة سياساتها العقابية ضد إسرائيل الناكرة للجميل الروسي التاريخي واللاحق.
المهم توالت ردود الفعل الإسرائيلية من بينها ما أعلنه وزير الشتات الإسرائيلي، نحمان شاي في حديث لإذاعة الجيش الإسرائيلي، أن محاولة معاقبة الوكالة اليهودية على موقف إسرائيل من الحرب الروسية على أوكرانيا "امر مثير للشفقة". وفي ومحاولة للتخفيف من آثار الصفعة الروسية، ذكر موقع صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن فرع الوكالة اليهودية في موسكو (كان) يفكر بتعليق عمله بنفسه. وأضاف الموقع أن وزارة العدل الروسية بررت قرارها بقيام الوكالة بمخالفات للقانون الروسي دون إعطاء أي تفسيرات وعادت الصحيفة الإسرائيلية ذاتها في يوم الخميس الموافق 21 تموز / يوليو الحالي تناقض نفسها بنفسها، عندما كتبت تقول بعدما حددت "المحكمة في موسكو جلسة حول هذه القضية في 28 تموز / يوليو (غدا)، إذا أغلقت مكاتب الوكالة في روسيا بالفعل، فهذه ضربة قاسية موجهة ضد الهجرة من روسيا (لاحظوا التناقض في الخطاب الإعلامي السياسي الإسرائيلي) تمثل الأزمة الحالية ذروة جديدة في التوترات بين تل أبيب وموسكو، بسبب الموقف المتشدد من لبيد ضد تصرفات الروس في الحرب بأوكرانيا ووقوفه إلى جانب الغرب." وأضافت "يديعوت أحرونوت" "تشير التقديرات في إسرائيل إلى أن القرار الروسي سياسي، ويأتي كنوع من الانتقام الروسي."
وأمس الثلاثاء الموافق 26 تموز/ يوليو الحالي طالب الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ من كافة المسؤولين والمراقبين الإسرائيليين عدم الإدلاء بأية مواقف علنية حول القضية، تفاديا لأية مضاعفات قد تنجم عن القيصر الروسي، وأيضا للتخفيف من حدة التوتر، وفي محاولة للمحافظة على حبل الود قائما بين البلدين.
في كل الأحوال الخطوة الروسية تشكل تطورا إيجابيا، وخطوة متقدمة في سياق انفكاك العلاقات البينية بين إسرائيل المارقة وروسيا الاتحادية، رغم أن المحكمة ستبدأ غدا الخميس النظر بدعوى وزارة العدل الروسية، إلا أنني أعتقد أن روسيا لن تتراجع عن الخطوة التي أعلنتها الوزارة، وستمضي قدما في منع الوكالة من العمل في أراضيها، وهذا انتصار جزئي فلسطيني، مطلوب المراكمة عليه.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها