كتب سيادة الرئيس أبو مازن في الثلاثين من آذار هذا العام 2022 وبخط يده:" لم تكن فلسطين أرضًا قاحلة، بل أرض معطاءة، وكان أبناؤها وبناتها مبدعين في الشعر والقصة والرواية والمسرح، والموسيقى والسينما، والعلوم الاجتماعية والفكر والفلسفة.. إن هذه الكوكبة من الكتب التي نعيد إصدارها تقدم باقة من هذه الابداعات التي تكشف عن عظمة هذا الشعب ومحبته للثقافة والفنون والمعرفة... كانت فلسطين تزخر بالمطابع والمكتبات والصحف والمجلات والمسارح ودور السينما والمراكز الثقافية والمدارس المعاهد، وكانت منارة يهتدي بها الآخرون، ويفدون اليها طلبًا للعلم والمشاركة في الحياة الثقافية التي كانت تزدهر بها.. نعتز بموروثنا الثقافي الذي أبدعه أجدادنا ونريد المحافظة عليه، ونريد للأجيال القادمة أن تقرأ وتعتز به وتبدع كما أبدع أسلافهم". 
لا يعزز اطلاق سيادة الرئيس محمود عباس البرنامج الوطني لإعادة طباعة الكتب التي صدرت في فلسطين قبل النكبة ثقتنا الراسخة أصلاً بمنهجه السياسي، وبحكمته ورؤيته لطبيعة ومضامين الصراع الوجودي مع المشروع الصهيوني العنصري، وحسب، بل يبعث فينا الإيمان الثابت بالواقع الحضاري المادي التي كان عليه شعبنا الفلسطيني قبل المؤامرة الاستعمارية الدولية التي أقرت إنشاء كيان وكيل على أرض وطننا فلسطين سمي (إسرائيل)، ليس ابتداء من وعد بلفور، وإنما منذ العام 1905 حيث أرهصت الدول الاستعمارية حينها لإنشاء كيان غريب عن المنطقة وتاريخها وحضارتها، وقررت بعد سنتين من النقاش استهداف فلسطين كما جاء في (وثيقة كامبل) لكونها المنارة الثقافية، الاقتصادية، السياسية، المتميزة آنذاك، الواجب تدميرها لإطفاء الاشعاع الحضاري في منطقة شرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط ومركزها فلسطين، هذا الاشعاع الذي كانت تخشى الدول الاستعمارية تأثيراته الايجابية على شعوب المنطقة مع ابتداء نمو الجذور الوطنية والقومية لدى الأمة العربية، علاوة على مكانتها (فلسطين) كأرض مقدسة لدى المؤمنين بالرسالات السماوية، وموقعها الاستراتيجي الجغرافي والأمني كملتقى بين قارتي آسيا وإفريقيا.. علماً أن المستعمرين خطوا في وثيقتهم ما يلي: "إن البحر الأبيض المتوسط شريان حيوي للاستعمار وجسر الوصل بين الشرق بالغرب، والممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والإفريقية، وملتقى طرق العالم، وأيضًا هو مهد الأديان والحضارات، والإشكالية في هذا الشريان أنه يعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص شعب واحد (الشعب العربي) تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان". لذا كانت توصيات المؤتمر: الإبقاء على شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة متناحرة ومحاربة أي توجه وحدوي فيها ولتحقيق ذلك، يجب إقامة حاجز بشري قوي وغريب ومعادٍ، يفصل الجزء الإفريقي من هذه المنطقة عن القسم الآسيوي ويكون شعبًا صديقًا لنا (اليهود)". 
أتى القرار الثالث لسيادة الرئيس بعد مرحلتي تأسيس هامتين، أي بعد تجسيد مشروعي المكتبة الوطنية، والمطبعة الوطنية، ولا يتبقى إلا انخراط المثقفين الفلسطينيين باعتبارهم الضلع الرابع المكمل لقاعدة هرم ثقافي فلسطيني وطني، سترتفع وجوهه الأربعة لتشع من جديد على جهات الدنيا، فالمطبعة الوطنية قاب قوسين أو أدنى من اطلاق عجلتها، وسيكون تنفيذ هذا البرنامج الوطني على رأس أولويات عملها، وسيدرك الذين اصطنعوا الغشاوة على أبصارهم، وضربوا على بصيرتهم صفائح الفولاذ حتى لا يروا ولا يلمسوا ولا يحسوا ولا يقدروا ولا يفكروا، وحاولوا تعميم الجهل والمفاهيم الظلامية، أن منهج سيادة الرئيس أبو مازن السياسي الوطني والإنساني خالٍ تمامًا من الرغبات الشخصية السلطوية التي لا تتحقق إلا على حساب الشخصية والهوية الوطنية، التي اذا أصيبت بداء استعراض الكلام الرغبوي المثير، وإغراق الجماهير بشعارات كالزبد، فإن مصيرها سيكون أسوأ مما رسم وخطط له رؤوس المنظومة الاستعمارية، وكلفوا المنظمة الصهيونية بتنفيذه. 
يجب التأكيد هنا أننا لا نتصارع مع ثقافة صهيونية، إذ ليس للاحتلال والاستيطان والعنصرية والجريمة ضد الانسانية ثقافة، لتناقضها الجوهري مع الطبيعة الانسانية اصلا لكننا بصدد تفكيك (كذبة تاريخية) ابتدعها رؤساء المنظمة الصهيونية وصدقوها، ومرروها في غفلة من وعي الكثير من شعوب وحكومات ودول العالم بما فيهم أشقاء عرب، أما روايتنا الفلسطينية فموجودة ومتجددة على ارض وطننا بإنسانها الفلسطيني المتحضر..فالشعوب تتعرض لنكبات ونكسات لكنها لا تنهزم إلا عندما تتفتت قواعد بنائها الثقافي بما فيها التراثي الاجتماعي الانساني النبيل، ونحن مثال، فقد استطعنا الصمود والمقاومة حتى بعد إنهيار ركائز بنيتنا السياسية والاقتصادية إلى حين، وتمكنا من إعادة بناء هذه الركائز بتصاميم منسجمة مع العصر، واستطعنا البناء على قاعدة ثقافة وطنية إنسانية نقية صلبة كالماس الطبيعي، ونعتقد أن قرارات سيادة الرئيس إنشاء المكتبة والمطبعة وإطلاق البرنامج الوطني ستصقل الشخصية الوطنية الفلسطينية بإتقان، حيث يرى كل إنسان حر في هذا العالم ذاته النقية في وجه من وجوه ماسة الثقافة الفلسطينية.


*المصدر: الحياة الجديدة*