بِدم بارد وبوحشية قلّ نظيرها ارتكب العدو الصهيوني جريمته البشعة بِحق أيقونة الصحافة الفلسطينية الإعلامية في قناة الجزيرة القطرية شيرين أبو عاقلة، وذلك أثناء تغطيتها لمحاولة الإحتلال إقتحام مخيم جنين في الضفة الغربية. ففي استشهاد أبو عاقلة قدّم العدو دليلاً جديداً على حقده الدفين ونظرته إلى الشعب الفلسطيني بكل مكوِّناته وانتماءاته، وليضيف جريمة جديدة إلى سجّله الحافل بالقتل بحق الشعب الفلسطيني وليكشف مجدداً عن الوجه الحقيقي لهذا الكيان المصطنع القائم على نهج القتل والإجرام وإسكات كل صوت حر ينقل الحقيقة خوفاً من زيف إدعاءاته وسلوكه العدواني. 

 استشهاد شيرين

"في الطريق إلى جنين"، كانت هذه الكلمات الأخيرة لمراسلة الجزيرة في الأراضي المحتلة شيرين أبو عاقلة، وهي في طريقها إلى مدينة جنين شمال الضفة الغربية. أما عن صورتها الأخيرة، فكانت وهي ترتدي سترتها الواقية لأنها كانت على يقين أنها أمام عدو قاتل غدار لا يميز بين المدنيين والمقاومين والصحافيين، لكنها لم تكن تتوقع أن تتحوّل إلى الحدث بدل من تغطية الحدث نفسه. 

كعادتها، همّت شيرين مبكرة صباح الأربعاء إلى الميدان وارتدت زيها الصحفي الذي يميز هويتها الصحفية لتفادي أية مخاطر، وانطلقت إلى منطقة الجابريات بين مخيم جنين وقرية برقين غربي مدينة جنين، لنقل اقتحام جنود الإحتلال المدججين بالسلاح للمنطقة بهدف اعتقال أحد  الفلسطينيين الذي حاصرت منزله وأخذت تنادي عليه عبر مكبرات الصوت. 

لم يطل الأمر كثيراً بعدما أدرك الإحتلال أن مهمته فشلت، فأخذ يطلق الرصاص بشكل عشوائي في البداية، لكن قناصته المتمركزين في الأزقة والحواري كان لديهم هدف آخر وهو إسكات صوت الحق الذي ينقل همجية الإحتلال ووحشيته وبربريته، فبدأت عملية الاستهداف المباشر للصحافيين. الطلقات الأولى للفوهات الصهيونية فوتت هدفها، ما جعلهم أكثر إصراراً على ارتكاب مجزرتهم البشعة أمام أعين العالم أجمع وفي وضح النهار، فكان أن انتقل القناصة إلى منطقة تقع على خط تماس مباشر مع الصحافيين، وصوّبوا رصاصاتهم في اتجاه زميل شيرين المنتج في قناة الجزيرة علي السمودي، وأصابوه. لكن إصابة علي لم تشفِ غليل الإحتلال وحقده، فعلي الذي تلقى الرصاصة في كتفه نجا من الموت بأعجوبة، فكان أن وجّهوا فوهات قناصاتهم في اتجاه شيرين، وأصابوها برصاصة قاتلة في رأسها. 

لم يكتفِ وحوش الإحتلال بمقتل شيرين، بل استمروا في استهداف زملاء شيرين ممن كانوا حاضرين وشاهدين على بشاعة المجزرة، وكأن الإحتلال كان يريد أن يطمس معالم جريمته، فكثّفوا من عمليات القنص في اتجاه جميع الصحافيين المتواجدين في موقع الجريمة، وشاءت الأقدار أن يقوم احدهم بتصوير الجريمة وكيف حاصر المجرمون الزميلة شذا حنايشة بعد قتلهم لشيرين بدم بارد. 

استمرت عملية القنص، ولم تهدأ رصاصات الغدر، حتى تمكن أحد الأبطال الفلسطينيين من القفز فوق حائط اسمنتي وقام بإخراج حنايشة من خط النار، ليكمل مهمته بإنتشال جسد شيرين المتهاوي بعد الرصاصة القاتلة. بعد تخليص جسد شيرين لم تتمكن سيارات الإسعاف من الوصول إلى موقع الجريمة، فالقنّاصة المجرمون استهدفوا سيارتي إسعاف كانتا متواجدتين في المنطقة ومنعوهما من الوصول إلى موقع جريمتهم، فما كان من زملائها أن نقلوها بسيارة خاصة إلى مستشفى ابن سينا التخصصي بالمدينة، ليعلن عن استشهادها بعد فشل محاولات إنعاشها. 

 من هي شيرين أبو عاقلة

ولدت شيرين نصري أبو عاقلة عام 1971، وترعرعت في مدينة القدس لأسرة مسيحية تنحدر من مدينة بيت لحم جنوب الضفة الغربية، وأنهت دراستها الثانوية في مدرسة راهبات الوردية ببيت حنينا في المدينة المقدّسة. التحقت شيرين بداية بدراسة الهندسة المعمارية في جامعة العلوم والتكنولوجيا في الأردن، لتنتقل بعدها إلى تخصُّص الصحافة في جامعة اليرموك الأردنية أيضا، لتتخرّج بعدها بتفوق في الصحافة. 

عادت شيرين بعد تخرُّجها إلى فلسطين وعملت في مهام إعلامية مع عدة جهات، مثل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الأونروا، إذاعة صوت فلسطين، قناة عمّان الفضائية، ثم مؤسسة مفتاح، وإذاعة مونت كارلو. وفي عام 1997 انضمت شيرين إلى طاقم قناة الجزيرة الفضائية في فلسطين بعد عام على تأسيس القناة. وظلت فيه حتى قضت شهيدة للرسالة الإعلامية المناصرة لوطنها وقضيتها، وهو ما جعل كثيرا من الصحفيين يدينون لأستاذتهم بالتعلّم منها والاستفادة من خبرتها. 

لم تترك شيرين قرية أو مدينة أو مخيماً فلسطينياً إلا وأعدّت عنه أو منه قصة صحفية، وكانت شاهدة على أحداث فلسطينية مفصلية، أبرزها تغطية أحداث إنتفاضة الأقصى أو ما يُعرف بالانتفاضة الثانية بين عامي 2000 و 2004، التي اجتاح فيها الإحتلال الصهيوني الضفة الغربية، وغطّت فيها عمليات قصف واغتيال وأحداثاً بالغة الخطورة. 
وشاركت شيرين بتغطيات صحفية عديدة في مواجهات  القدس  وغزة والضفة الغربية والداخل، وكان آخرها المواجهات في القدس والمسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، حيث تعرّضت وزملاءها للتنكيل والاعتداء من جيش الإحتلال، وأصيبت برصاص الإحتلال أكثر من مرة وفي أكثر من موضع، وعُرفت بشجاعتها وإقدامها لإظهار الحقيقة. 

وعربياً، كانت آخر تغطية شاركت فيها في مصر قبل عدة أشهر، حيث كانت من أوائل الصحفيين الذين انتقلوا إلى هناك عقب إعادة فتح مكتب قناة الجزيرة في القاهرة، وظلت هناك بضعة أسابيع قبل أن تنتقل للعاصمة القطرية الدوحة، كما برزت في تغطية عدة أحداث عالمية، ومن بينها الإنتخابات الأميركية السابقة. 

شهادات توثق الاغتيال 
 في شهادة لهما، قال الصحفيان علي السمودي ومجاهد السعدي اللذان كانا بجانب شيرين عند إصابتها، إن جيش الإحتلال تعمّد إطلاق النار بشكل مباشر على الصحفيين "مع العلم أنه لا يوجد مسلحون ولم يكن هناك مواجهات وكانت المنطقة آمنة". وبحسب السعدي "حاولنا كشف أنفسنا للاحتلال كصحفيين لكي لا يتم استهدافنا، فقد كنا ندرك أن الوضع صعب، وتقدّمنا بشكل تدريجي لإظهار أننا صحفيين". 

وفي تصريح لمدير مكتب الجزيرة في فلسطين وليد العمري قال: "لم يكن هناك مواجهات وأن قنّاصة للجيش الإسرائيلي كانوا يعتلون أسطح المنازل، وأن شيرين أصيبت برصاص القناصة من جيش الإحتلال". 

وروت الصحافية شذا حنايشة، التي كانت بجانب شيرين لحظة إصابتها أنها كانت ترتدي زيها الصحفي بالكامل "الدرع والخوذة"، ومن أطلق النار عليها كان يقصد قتلها، وأن ما حدث "جريمة إغتيال"، وأن الصحفيين "كانوا هدفا للإحتلال". 

 الطب الشرعي استخدام رصاص محرَّم دولياً

كشفت تقارير الطب الشرعي خلال تشريح جثة الشهيدة مراسلة الجزيرة شيرين أبو عاقلة، أنها أصيبت برصاص انشطاري محرّم دولياً، والذي لطالما استخدمه جيش الإحتلال ضد الأطفال الفلسطينيين العُزّل منذ الإنتفاضة الأولى وحتى الآن. 
ونوع الرصاص الذي تم استخدامه في عملية الإغتيال البشعة هو من الرصاص المتفجّر أو رصاص الدمدم أو رصاص التوتو، وهو نوع من الرصاص الدمدم صممم لينفجر في أجساد الضحايا، بهدف إيقاع أكبر قدر ممكن من الضرر الداخلي بهم. 

يعد الدمدم أو الرصاص الانشطاري المتفجر من أبرز الأسلحة التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين -خاصة الأطفال- منذ الانتفاضة الأولى وحتى الآن، رغم تحريمه دولياً. وأخطر ما في الأمر، أن هذا الرصاص يطلقه قناصة محترفون يركزون على المناطق العلوية من جسم الإنسان، مما يتسبب في تهتك الأحشاء. مع الاشارة ان رصاص الدمدم مصرح لاستخدامه فقط للصيد وقتل الحيوانات لكن أخطره ما تستخدمه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني من طرف قناصة محترفين تم تطويره بإضافة اليورانيوم المنضب، مما يعطيه قوة اختراق أكبر تحدث فجوات مريعة. 

 استشهدت شيرين لتولد شيرين

بعد استشهاد شيرين بساعات، أنجبت العديد من النساء الفلسطينيات فتيات تم تسميتهن مباشرة شيرين. لقد ظن الاحتلال انه بإغتيال شيرين قد يسكت صوت الحق، لكنه لا يعلم انه في مقابل شيرين يولد يومياً عشرات المقاومين الفلسطينيين من الذكور والإناث، ويتم ارضاعهم بدلاً من الحليب حب الوطن والعزة والكرامة والاستعداد للإستشهاد من أجل فلسطين... كل فلسطين. 

 كادر حزن على "صوت فلسطين"

أدانت الرئاسة الفلسطينية "جريمة إعدام الاحتلال الإسرائيلي للصحفية شيرين أبو عاقلة"، وحملت الحكومة الإسرائيلية المسؤولية الكاملة عنها، مؤكدة أن "إعدام الصحفية أبو عاقلة وإصابة الصحفي علي السمودي جزء من سياسة الاحتلال باستهداف الصحفيين لطمس الحقيقة وارتكاب الجرائم بصمت". 

في حين نعت الحكومة الفلسطينية ورئيس وزرائها محمد اشتية "فارسة الإعلام وأيقونة الصحافة شيرين أبو عاقلة"، في حين أعلنت مدينتا جنين والقدس ومناطق عدة بالضفة الغربية الإضراب العام والحداد على روح الشهيدة أبو عاقلة. 

وضجت وسائل التواصل الاجتماعي بآلاف المنشورات التي تنعى الشهيدة الصحفية، تحت وسوم "شيرين شهيدة جنين" و"الشهيدة الشاهدة" و"شيرين أبو عاقلة شهيدة".