حوار/ حسن بكير

صبرا وشاتيلا أبشع مجزرة ارتكبت بحق البشرية وعلى مرأى ومسمع العالم المتحضر المتشدق بالحرية والديمقراطية، ارتكبها شارون "رجل السلام" كما دعاه يوماً "بوش" والذي ارتبط اسمه بأكثر المجازر دموية في العالم، سجله التاريخي الحافل بالإجرام يشهد له على ذلك.

هذه المجزرة لم تكن وليدة صدفة، بل هُيئت لها الأسباب والظروف والمناخ الدولي والإقليمي والمحلي لإرتكابها، بدأت بالإجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 وتدمير البنية العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية ثم الضغط الدولي على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لإخراج مقاتليها من لبنان عبر المبعوث الأميركي "سيئ الذكر" فيليب حبيب والذي سميت الإتفاقية باسمه، حيث ورد فيها آنذاك:

"أن حكومتي لبنان والولايات المتحدة الأميركية ستوفران الضمانات المناسبة من أجل حماية الفلسطينيين غير المقاتلين الذين يبقون في بيروت ملتزمين القوانين، وتشمل الحماية عائلات الذين غادروا منهم. ان الولايات المتحدة ستعطي ضماناتها على أساس تأكيدات تتلقاها من الحكومة الإسرائيلية، ومن قادة جماعات لبنانية معينة كانت على اتصال بها".

بعد تقديم الضمانات،وحقناً لدماء الأبرياء من المدنيين وإيماناً منها بمصداقية المجتمع الدولي، بدأت قيادة م.ت.ف بإخراج قواتها من بيروت في 21 آب 1982 واستمرت لغاية الأول من أيلول من السنة ذاتها. تلاها خروج القوات المتعددة الجنسيات (الأميركية – إيطالية – فرنسية).

·       في 23 آب 1982 جاء بشير الجميّل رئيساً للبنان على دبابة إسرائيلية متوعداً ومهدداً الفلسطينيين بالويل والثبور

·       14 أيلول عند الساعة الرابعة والنصف عصراً تم اغتيال بشير الجميّل في مقره، والذي هال قيادة الميليشيات الفئوية آنذاك الفرحة التي عمت المنطقة الغربية بمقتله.

·       15 أيلول زحف جيش العدو الإسرائيلي باتجاه بيروت من عدة محاور، بحجة وجود 2000 مقاتل فلسطيني ما زالوا في بيروت والمخيمات الفلسطينية، وقاموا بتطويق مخيمي صبرا وشاتيلا.

·       ليل 16 أيلول كان الفلسطينيون واللبنانيون على موعد مع الموت وكان الظلام يلف بيروت إلا سماء طريقهم لارتكاب جريمتهم. وكان شارون يشرف بنفسه على المجزرة والذي اتخذ بنايات الضباط عند المدينة الرياضية مقراً له. واستمرت المجزرة حتى 18 أيلول وكانت حصيلتها حصد ما يقارب 3500 ضحية من النساء والأطفال والعجز، حيث قتلت الميليشيات الفئوية الحاقدة النساء وبقروا بطون الحوامل واغتصبوا الفتيات أمام أعين آبائهم وأمهاتهم قبل قتلهم ومثلوا بالجثث وقطعوا الأطراف والرؤوس بالبلطات وقتلوا الأطفال والشيوخ بدم بارد وهدموا المنازل على رؤوس ساكنيها واختلطت أشلاء الجثث بأنقاض المنازل المهدمة، وتناثرت أشلاء الجثث هنا وهناك، وأعدم الشباب رمياً بالرصاص في الأزقة، ولم يجد نفعاً بكاء الأطفال وتوسّل الأمهات.

ووقف العالم متفرجاً، متلذذاً بما يرى من قتل وذبح وتقطيع أوصال.

28 عاماً مضت وأولئك الذين قدموا الضمانات لم يحركوا ساكناً لمحاكمة مرتكبي مجزرة العصر. 28 عاماً وتلك الصور والمشاهد المرعبة والحزينة ما زالت تتراءى أمام أعين ومخيلة من فقد عزيزاً وحبيباً. وكل عام يمضي يزداد الحنين والشوق لفقدانهم.

بعد مضي 28 عاماً على ارتكاب هذه المجزرة كان لا بد من لقاء البعض، رغم قلتهم وعدم رغبة البعض من التحدث إلينا،  لعدم جدوى الكلام "كما قالوا لنا" ولعدم تجديد الجرح، حيث كان البعض يجهش بالبكاء.

سميحة عباس حجازي والمعروفة بأم علي حيث كانت لديها الجرأة لتروي لنا كيف قتل ابنها البالغ من العمر 11 سنة بطريقة وحشية وابنتها المتزوجة حديثاً وصهرها،فقالت لنا:

أنا لبنانية من الجنوب، تزوجت الفلسطيني حسن إدلبي الذي خطف على يد الكتائب اللبنانية خلال حصار مخيم تل الزعتر ولم يعثر عليه حتى الآن. انتقلت إلى شاتيلا وعشت سنوات في كنف الفلسطينيين الذين لم يتخلوا عني يوماً وما زالوا حتى اللحظة على عكس أهلي الذين تخلوا عني. وتضيف أم علي: مساء الخميس 16 أيلول 1982 أي يوم بدء المجزرة كنت أقيم في مبنى النمساوية في منطقة الحرش الملاصف لمخيم شاتيلا، طلبت من ابني علي أن يتوجه إلى منزل ابنتي زينب المتزوجة حديثاً "التي تسكن في الحي الغربي خلف المدينة الرياضية أن تأتي وزوجها لتناول العشاء معي. وطال غياب علي، ومرت الساعات وبدأت الهواجس تنتابني وخاصة بعد سماعي صوت إطلاق نار كثيف مصدره المدينة الرياضية. لم أستطع الخروج من المنزل بعد انتشار شائعة بأن هناك مجرزة. في اليوم التالي دخل مسلحون منزلي وكانوا يضعون شارة الكتائب وطلبوا مني مغادرة المنطقة وبينما كنت أسير شاهدت الجثث هنا وهناك وقرب إحدى الجثث وجدت الكثير من الأبر مما يدل على أنهم كانوا يتعاطون المخدرات لأن من يقوم بارتكاب هذه المجازر إما  ان يكون حيوان مفترس أو فاقد الوعي. فوراً توجهت إلى منزل ابنتي وذهلت من هول المشهد، تقول أم علي "لا يفارق مخيلتي حتى اللحظة هذا المشهد، علي وزينب وصهري، ضربوا بالبلطات على رؤوسهم، دماغ ابني على الأرض". وجهشت أم علي بالبكاء وبدأت تهيل الشتائم لشارون وبوش.

ولم يقتصر مأساة أم علي فقدان أولادها وصهرها، فقد كانت تعاني من مشاكل عدة، فهي منبوذة من أهلها لأنها تزوجت فلسطيني، كما كان عليها العمل لإعالة أسرتها، حتى أهلها لم يساعدوها آنذاك في لملمة جثث أولادها، فقامت بنفسها بلف الجثث بيديها العاريتين ودفنتهم في مقبرة المجزرة. وما زالت حتى اللحظة جدران منزلها في الحرش تحتضن صورة ابنتها في ثوب الزفاف وابنها علي.

يمامة عبد الله (أم أحمد سرور)

إستشهد زوجها أبو أحمد وأولادها شادي 4 سنوات وشادية 9 اشهر وفريد 5 سنوات وإصابة سعاد في منزلهم في منطقة الحرش (مكان المجزرة).

بداية رفضت أم أحمد أن تقابلنا بعد أن علمت أننا جئنا لمقابلتها من أجل الحديث عن المجزرة، ولكنها ما لبثت أن وافقت على مقابلتنا، وقالت أم أحمد:

سمعنا طرقاً على الباب وطلب المسلحون من أبو أحمد فتح الباب بداية رفضنا أن نفتح لهم، ولكن ما لبث أبو أحمد أن فتح لهم الباب، فدخلت مجموعة كبيرة من المسلحين، وعرض أبو أحمد عليهم أن يأخذوا ما يملك من المال وأن يتركوه والأطفال وشأنهم فأخذ المسلحون مبلغ 28000 الف ليرة لبنانية وقاموا بإطلاق النار على أبو أحمد وشادي وشادية وفريد وقتلوا على الفور، واصبت انا وسعاد وبقيت سعاد على قيد الحياة تنزف لمدة 24 ساعة حتى تم انقاذها. وعلى الفور هربت مع بقية أولادي ماهر وإسماعيل ونهاد باتجاه مخيم شاتيلا وأبلغت السكان بحدوث المجزرة ولكن احداً لم يصدقني.

ام حسين برجي اسمها ميلانة الها وهي مسيحية متزوجة من لبناني تقيم في منطقة الحرش. عانت ما عانته يوم ارتكاب المجزرة كانت تبلغ من العمر آنذاك 43 سنة، الآن لها من العمر 71 سنه، بدأت ذاكرتها تخونها وكانت تكلمنا وتتوقف لتستجمع خباية ما بقي في الذاكرة. فقدت في المجزرة شريك عمرها وولدان  وابن سلفها الذي ربته صغيراً واصيب لها ولداً اخر.

حكايتها او ما علق في الذاكرة تقول ام حسين: يوم ارتكاب المجزرة سبقها اطلاق رصاص كثيف هربنا الى الملجأ انا وزوجي وبناتي واولادي وابن سلفي ولم نكن ندري ما يجري في الخارج. وفجأه وقف مسلحون على باب الملجأ وبدأوا ينادون علينا كل بإسمه وكنت انا اول الخارجين مع زوجي واولادي، وطلبوا منا ان نشكل صفين، واحد للرجال وآخر للنساء والاطفال. وكان المسلحون من القوات اللبنانية والكتائب وجيش لحد وقلت لهم: اتيتم لتنقذوننا من الاسرائيليين فأجابني احدهم: هيك وهيك يا اخوات.... من الكلام الوسخ. واجبته لماذا تفعلون بنا هكذا انا مسيحيه واجاب المسلح: "هلق كلكلوا صرتوا مسيحية ولبنانية" واخذونا الى تلة خلف المدينة الرياضية وكان معي ابنتي احملها على يدي وهناك شاهدت "الاسرائيليه وناس كثير"  وتابعنا الى السفاره الكويتيه وكان هناك شارون وحبيقة ووضعونا  في الشاحنة واخذونا الى الاوزاعي وبقينا حتى الليل وفي الصباح تركونا فأخذت بناتي الى منطقة حي السلم وعدت للبيت في الحرش ابحث عن زوجي واولادي وذهبت الى الملجأ وهناك شاهدت اولادي وقد ضربوا بالبلطة وزوجي ممداً على الارض جثة هامدة ولم يكن هناك اي آثار للضرب او الرصاص مما يدل على ان المسلحين قتلوا اولادي قبله واصيب بسكته قلبية من هول المشهد. اما ابنها الثالث فبقيت تبحث عنه ثلاثة ايام بين القتلى تبين فيما بعد انه اصيب في يده اليمنى وبطنه وخرجت امعاءه وانقذه جمال المجذوب حيث كان يعالج في المستشفى.

عزاء ام حسين بزوجها واولادها انهم قتلوا مظلومين ولم يكونوا يقاتلون او يحملون السلاح وليس لهم اعداء. وتردد ام حسين دائماً: "الله يظلم الي ظلمهن ويبعتلوا ابن حرام يعمل فيه متل ما عملوا فينا، قتلوا حبيقة لأنه اراد ان يقول الحقيقة". ودائماً تدعو ام حسين بطول العمر لشارون كي يطيل الله له بالعذاب على ما ارتكب من جرائم.

ستبقى مجزرة صبرا وشاتيلا وصمة عار على جبين المجتمع الدولي وستبقى ارواح الضحايا تطارد مرتكبي هذه المجزرة حتى الاقتصاص منهم.