فتح ميديا - لبنان

الفلسطينيون الذي ظلوا تحت الاحتلال الاسرائيلي في سنة 1948 برهنوا بصمودهم اللافت أنهم مثل عشب الأرض، كلما جززته نبت مجدداً. ففي عام النكبة بقي في فلسطين نحو 150 ألفاً، وهؤلاء صاروا اليوم قرابة مليون ومئتي ألف نسمة. ومع أنهم تعرضوا للظلم المتمادي من إخوانهم الفلسطينيين والعرب، وللعنصرية الاسرائيلية التي حاقت بهم طويلاً، غير أنهم ثبتوا على هويتهم الفلسطينية، وكافحوا بقوة في سبيل بقائهم في أرضهم، وفي سبيل الحفاظ على عروبتهم. لقد عُوملوا أحياناً كالمغتصبة في المجتمعات المتخلفة، فنُبذوا وقوطعوا، وأثيرت الشكوك في ولاءاتهم، مع أنهم كانوا الضحية بوضوح أكيد.

هؤلاء المنسيون تمكنوا، بعد رحلة كفاح عنيدة، من أن يعيدوا الاعتبار الى تاريخهم بقوة المثال الذي قدموه الى أبناء شعبهم الفلسطينيين، والى ابناء قوميتهم العرب. وفي مجرى نضالهم من أجل تأكيد هويتهم وترسيخ وجودهم في بلادهم أنجب المجتمع الفلسطيني في الداخل أعلاماً في الوطنية الثقافية والسياسية أمثال محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد وسالم جبران وراشد حسين وحنا ابو حنا (في الشعر)، وطه محمد علي وتوفيق فياض وسليمان ناطور (في الأدب) وإميل توما وعزمي بشارة وداود تركي وصالح برانسي ورائد صلاح (في السياسة والوطنية)، ومحمد بكري وسامية الحلبي وميشال خليفي وهاني أبو أسعد وايليا سليمان (في الفن التشكيلي والسينما) وغيرهم كثيرين جداً.

من هم ؟

 
سكن الفلسطينيون العرب الذين تشبثوا بأرضهم، وظلوا في القرى والبلدات التي نجت، لأسباب متنوعة من الطرد والترحيل، في مدينتين هما: الناصرة وشفا عمرو وعاشوا في ثلاث مناطق فقط هي: الجليل والمثلث والنقب. وبقيت لهم 104 قرى، ودُمِّرت 419 قرية. وكان من جراء ترحيل الشعب الفلسطيني عن أرضه، وإحلال المهاجرين اليهود في مكانه، أنْ صارت مدنهم التاريخية مختلطة، وباتوا هم أنفسهم أقلية فيها مثل عكا وحيفا واللد والرملة ويافا، وحتى القدس. وقد توزعت اعدادهم كما يلي: مناطق عربية خالصة مع أقلية يهودية تكاد لا تذكر في الناصرة والبقيعة. مناطق مختلطة مثل الجليل (52% عرب و48% يهود) والقدس (32% عرب) والنقب ( 33%عرب) وعكا (33% عرب) والرملة (22% عرب) ويافا – تل أبيب (5% عرب) واللد (25% عرب) وبئر السبع (3% عرب) وترشيحا التي صارت مستعمرة معلوت(22%عرب) والناصرة العليا (20% عرب) وكرمئيل (2%عرب) وحيفا ( 13%عرب). ومناطق صارت يهودية لكن فيها أقلية عربية تكاد لا تذكر مثل عسقلان ونهاريا وناتانيا . اما قرى المثلث الفلسطيني فظلت عربية خالصة مثل كفر قاسم وجلجولية والطيرة والطيبة وقلنسوة وجت وباقة الغربية وكفر قرع وبرطعة وعارة وعرعرة ومقيبلة وأم الفحم.

خضع الفلسطينيون في الداخل لقانون الطوارئ منذ سنة 1949 ( أي الحكم العسكري)، وصادر هذا الحكم أراضيهم بموجب قانون أملاك الغائبين في سنة 1950. وقد انتهى الحكم العسكري واجراءاته المهينة في كانون الاول 1966. وكان من الأسباب الأساسية لإلغاء قانون الطوارئ هو صمود الفلسطينيين طوال تلك المدة، وانتهاء مرحلة الخوف على الكيان الاسرائيلي لدى الاحزاب الصهيونية المؤسسة لهذا الكيان، ورغبة بعض الأحزاب الصهيونية اليسارية في كسب الأصوات العربية في الانتخابات النيابية، ووقوف مجموعات يهودية ثقافية وسياسية الى جانب العرب (حزب راكح) والرغبة الرسمية الاسرائيلية في استيعاب الفلسطينيين بدلاً من اكتساب عداوتهم، خصوصاً بعد الضجة التي أثارتها مجزرة كفر قاسم في 29/10/1956.

غير مرحب بهم

يبلغ عدد العرب داخل الخط الأخضر نحو مليون ونصف المليون عربي، بينهم 260 ألفاً في القدس، ونحو 25 ألف سوري في الجولان، فيصبح الرقم الترجيحي لعدد فلسطينيي الداخل أكثر قليلاً من مليون ومئتي ألف فلسطيني. وهؤلاء منذ سنة 1948/ تحولوا الى مواطنين غير مرحب بهم في الدولة الإسرائيلية، مع ان اعداداً منهم صّوتوا للأحزاب الصهيونية كتعبير عن سلوك المهزوم وعن الخوف في الوقت نفسه لكنهم، بعد يوم الأرض في آذار 1976، راحوا يصوتون بنسبة أعلى للقوائم العربية – الصهيونية، وكان ذلك تعبيراً عن استمرار الوعي المشوّه لديهم. أما في تسعينيات القرن المنصرم فبدأوا التصويت للقوائم العربية كتعبير عن الوعي الذاتي الجديد. وفي هذا السياق ظهر "التجمع الوطني الديمقراطي" (بلد) في سنة 1995 الذي أسسه عزمي بشارة ليسهم في بلورة وعي فلسطيني متمسك بالهوية العربية في مواجهة "الأسرلة"، وفي دعم الحق الفلسطيني في التحرر والتخلص من الاحتلال، والتواصل مع الامة العربية لاخراج عرب 1948 من "الأسرلة"، والتأكيد، في الوقت نفسه، على رفض التطبيع. وطرح "التجمع"، الى ذلك، مسألة "دولة المواطنين المتساوين" في اسرائيل كتحدٍ فكري وسياسي للصهيونية.

كان من الطبيعي أن يظهر بين الفلسطينيين، في خضم الصراع الاجتماعي ضد الاحتلال وفي سياقه، بعض المجموعات الموالية للدول الاسرائيلية، والسبب هو تحول هؤلاء المنسيين من اكثرية الى اقلية معزولة عن أمتها، وضعيفة اقتصادياً وثقافياً، ومن دون مراكز مدنية تعزز اوضاعهم الاقتصادية، الامر الذي جعلهم مرتبطين بالخدمات التي تقدمها لهم دولة الاحتلال.

فقدان المركز المديني

انهار المجتمع الفلسطيني في سنة 1948 جراء النكبة وسقوط فلسطين في أيدي الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وفقد الفلسطينيون بذلك مؤسساتهم السياسية واحزابهم وقياداتهم، علاوة على أرضهم، وتحولوا من شعب يتألف من مالكي الأرض والتجار وأعيان المدن وصغار الكسبة والعمال والفلاحين الى لاجئين هنا وهناك. أما من بقي في قراه فقد تعرض لشتى انواع الاضطهاد، وخضع للحكم العسكري الذي دام ثمانية عشر عاماً متواصلة. وفي معمعان ذلك الحدث الكبير فقدت القرية العربية في الداخل اقتصادها الزراعي ، لكنها بقيت في مكانها، وانما من دون زراعة. ولم تشهد القرى العربية الباقية اي هجرة نحو المدن، لاستحالة ذلك وعدم وجود مدينة عربية جاذبة للعمال فالمدن العربية كالناصرة وشفا عمرو كانت مجرد مدن لايواء العمال والموظفين الذين يعملون نهاراً في المدن اليهودية القريبة.

إن فقدان الأراضي والسكان، ثم زوال الزراعة العربية، أديا الى اندماج الفلسطينيين تدريجاً بالاقتصاد الاسرائيلي كقطاع عمالي هامشي. غير أن القوى السياسية الفلسطينية التي نشأت لاحقاً تألفت من أبناء هؤلاء العمال الذين درسوا في الجامعات الاسرائيلية، وتحولوا الى مهنيين من الطبقة الوسطى غير المندمجة بالطبقة الوسطى الاسرائيلية. وهؤلاء لمعوا كفلسطينيين معتدين بأنفسهم، ومثقفين وأكاديميين، ولا يحملون أي عقدة نقص في مواجهة الاسرائيليين، بل يتعاملون معهم نداً لند. وقد تأثر فلسطينيو الداخل بالمثال الناصري، ثم بالمثال الكفاحي للثورة الفلسطينية، فأسسوا "الجبهة العربية" في سنة 1958 فكانت أول محاولة لتأسيس حزب عربي قومي قام بها طاهر الفاهوم وحنا نقارة واميل توما ومنصور كردوش وغيرهم. ثم ظهرت " حركة الأرض" في سنة 1959 على ايدي منصور كردوش وحبيب قهوجي وحنا مسمار وزكي البحري. وفي سنة 1972 ظهرت "حركة أبناء البلد"، أسسها ( توفيق كيوان) و"الجبهة الحمراء" التي ضمت عرباً ويهوداً غايتهم خوض الكفاح المسلح ضد الدولة الصهيونية ( داوود وأودي أديف) . لكن انهيار الفكر القومي، ولاسيما بعد حرب الكويت في سنة 1991، وتراجع الكفاح المسلح بعد الخروج من بيروت في سنة 1982، جعلهم يتجهون الى التركيز على فكرة المواطنة والهوية المعادية للأسرلة خصوصاً بعدما حاولت بعض القوى جرّ العرب الى الاندماج بالدولة الاسرائيلية.

لم تنته حرب 1948

ان صعود فئات فلسطينية متعلمة ومثقفة وذات تجربة سياسية وواثقة بنفسها أدى الى ظهور حركات سياسية مناوئة بقوة للأسرلة. وهذا الامر جعل أجهزة الدولة الاسرائيلية تدق نواقيس الخطر، وتعود الى اصدار قوانين عنصرية وتمييزية. ففي تموز 2003 أصدر الكنيست "قانون المواطنة" الذي يمنع على اي فلسطيني من ابناء 1948 كالناصرة مثلاً، والذي يتزوج امرأة فلسطينية من نابلس مثلاً، أن تأتي لتعيش مع زوجها في الناصرة. بينما تبيح القوانين الاسرائيلية لأي اسرائيلي ( يهودي) أن يأتي بزوجته الأجنبية لتعيش معه أينما شاء في اسرائيل. ومن المفارقات العنصرية العجيبة ان الفلسطيني من عرب 1948 الذي اضطر الى حمل الجنسية الاسرائيلية هو " مواطن اسرائيلي"بحسب القانون، وله حق الانتخاب والترشح الى الانتخابات، والتقدم الى العمل في وظائف الدولة لكن هذا المواطن لو تقدم للمطالبة بأرضه المصادرة، والموضوعة في تصرف "القيم على أملاك الغائبين" لانقلبت الحال على الفور، وصار هذا المواطن غير موجود ، بل غائباً تطبق في حقه قوانين أملاك الغائبين. ولو رغب أحد المواطنين الفلسطينيين المهجرين (أو اللاجئين في وطنهم) في زيارة قريته المدمرة، وأن يتجول في المكان الذي عاش طفولته فيه، ولو امتدت يده لتقطف ثمرة من شجرة ربما زرعها بنفسه، او زرعها والده، سيتم حينذاك اعتقاله وتسليمه الى الشرطة، ثم احالته على المحكمة بتهمة سرقة أملاك الغير. وكثيراً ما استأجر الفلسطينيون الباقون في وطنهم أراضيهم من "القيم على أملاك الغائبين"، كي يتمتعوا بزيارتها وجني غلالها بأيديهم حتى لو ذهبت هذه الغلال بعد ذلك الى دولة اسرائيل. ولعل هذه المفارقات لا تقع الا في دولة اسرائيل. ومهما كانت الحال، فالفلسطينيون الذين ظلوا في بلادهم سنة 1948 برهنوا أنهم مثل كيس الملاكمة، كلما وجهت اليه اللكمات ارتد بالقوة نفسها.