فتح ميديا - لبنان

نجاح عملية مبادلة الأسير الصهيوني جلعاد شاليط بـ 1027رهينة فلسطينية إنجاز يحاكي المجد الفلسطيني الذي ســــبق ودوّن على قائمته العديد من عمليات تبادل الأســـرى الفلسطينيين مقابل جنود أســـرتهم المقاومة الفلسطينية على امتداد تاريخها النضالي إضافة إلى عمليات تبادل أخرى تمت بين المقاومة في لبنان وسلطات الاحتلال الصهيوني، دون أن نغفل ما تم من مبادلات بين الجيوش العربية والصهاينة.

خلال عمليات التبادل كلها تم طرح الكثير من الأسئلة التي تتراوح بين الصعبة والمستحيلة، تماماً كالعملية الأخيرة التي جرت بين الاحتلال وحماس برعاية الحكومة المصرية. كما تخلل العملية حسابات وتمنيات وإسقاطات تدور حول إمكانية تحسين شروطها وبالتالي كسب المزيد من الأعداد التي يفترض تحريرها من سجون ومعتقلات العدو. هنا يتم تجاهل الواقع الذي كانت تتم فيه المفاوضات لجهة إمكانية تجاوب العدو مع شروط ومناورات التفاوض  والخلاصات التي كانت تنتهي إليها.

فالطرفان المتفاوضان يخضع كل منهما لحساباته ومقاييسه الخاصة، وذلك وفق معايير تتناسب واستثمار كل طرف لنتائج العملية في سياق مشروعه السياسي، لدرجة أن كل طرف يستطيع الادعاء بالنصر أمام جمهوره الذي طالما انتظر منه إنجازاً ما، وهو محق بذلك.

من المنظور الإسرائيلي استرسل نتنياهو في رفض ما سبق من وساطات إقليمية ودولية لانجاز عملية التبادل وعلى مدى سنوات ثلاث.

فمن وجهة نظره، تسهم العملية في زيادة نسبة المخاطر الأمنية على الكيان الإسرائيلي، وتضعف حجة حكومته بادعاء محاربة الإرهاب، كما أن جزءاً من موقفه كان يراعي مواقف غلاة اليمين الذين يتمثلون في حكومته.

إضافة إلى ذلك، لم يتردد نتنياهو عن معارضة عمليات تبادل سبق ووقّعت عليها حكومات إسرائيلية مختلفة، كدليل على سياسة التشدد التي كان ولا يزال يؤمن بها ويمارسها.

كذلك لم يكن رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي بوارد التخلي عن وسيلة التبرير التي أثبتت نجاعتها طوال فترة وجوده على سدة القرار الإسرائيلي. فالحصار الظالم للقطاع وما يرافقه من اعتداءات ومجازر وأعمال انتقامية تجاوز عدد ضحاياها الخمسة آلاف شهيد- يحتسب بينهم ارتكابات حكومة الاحتلال السابقة بزعامة أيهود أولمرت- كلها جرت تحت عنوان "تحرير الجندي الإسرائيلي" والاقتصاص من آسريه، حيث كان الملفت مصادقة أغلبية "الدول العظمى"على تلك الجرائم وتأييدها، إضافة إلى  تطوعها في الدعوة لتحرير شاليط واعتبار اعتقاله مساساً بالقيم الأخلاقية والإنسانية، مقابل عدم اكتراث كامل للأسرى والرهائن الفلسطينيين الذين تراوحت أعدادهم خلال السنوات الإثنتي عشرة الأخيرة بين 11500 و 6000 في سجون ومعتقلات وزنازين الاحتلال الإسرائيلي، والذين هم بنظر المواثيق والأعراف الدولية وقوانينها رهائن وأسرى حرب لدى دولة محتلة، وباعتراف الأمم المتحدة واستناداً إلى شرائعها ومؤسساتها، خاصة لجنة حقوق الإنسان فيها.

وهنا يجب التنويه إلى وجود العديد من الأسرى والرهائن الفلسطينيين ممن يقضون أحكاماً عالية في السجون الصهيونية ولأعداد مؤبدات مضاعفة تتجاوز الأربعين لدى البعض، كما أن بينهم عميد الأسرىالفلسطينيين والأسير الأقدم في العالم نائل البرغوثي.

الرأي العام الإسرائيلي ومعه المعارضة والعديد من الكتاب السياسيين كانوا مع إتمام صفقة التبادل ومنذ بداياتها، فيما رأى غلاة اليمين من سياسيين وعسكريين أن "أمن إسرائيل أهم من حياة أو حرية جندي إسرائيلي واحد"، وأن اللغة الوحيدة مع القوى الفلسطينية هي المزيد من القوة لكي يفهموا قواعد اللعبة واحترام ميزان القوى الراجح بالطبع لعسكر الاحتلال ومستوطنيه، وبخاصة نظرية "عدم السماح للاستفادة من عملية الأسر أو تشجيع أية جهة فلسطينية على القيام بعملية أخرى تخل بالوضع القائم وبالتالي تحرر المزيد من المعتقلين الذي يزيدون من مخاطر تنفيذ عمليات عسكرية ضد إسرائيل".

ينبغي أن ندقق بالموقف الإسرائيلي الذي شهد تخبطاً عميقاً خلال الفترة الماضية. فردة الفعل الأولى على العملية بدأت بعدوان شامل وكثيف لجهة الدمار وما صحبه من جرائم، وصولاً إلى عدوان العام 2008، الذي كان الأكبر والأعم، وهو الذي حافظ على نتائجه نتنياهو الأشد تطرفا من سلفه أولمرت.

فسياسة الاستعلاء المشبعة بالعنصرية والاجرام ارتدت على نتنياهو كنتيجة لجريمة أسطول الحرية، والتي قذفت بالعلاقات التركية- الإسرائيلية إلى الحضيض، فلم تفلح الرعاية الأميركية في إعادة أو ترميم تلك العلاقات، بل وصلت حدَّا لا يمكن إصلاحها مع عمليات التنقيب عن النفط وتدخل إسرائيل كطرف في النزاع حول قبرص تلاه تهديد تركي بنشر قطع بحرية عسكرية لحماية أعمال التنقيب الخاصة بها.

السياسة ذاتها اصطدمت بحالة الغليان الشعبي المصري التي لم تكن خففت حدتها الثورة المظفرة بعد، فجاء حدث استهداف الجنود المصريين ليفتح جرحا أعمق وأبعد من مسألة سقوط أربعة جنود على الحدود مع رفح، خاصة بعد رفض نتنياهو ومجلسه المصغر الاعتذار من مصر.

سياق الأحداث التي تلت مقتل الجنود المصريين والتي اختتمت بهرب السفير الإسرائيلي من القاهرة، ثم تتويج مصر وتركيا  كحليفين لزعامة المنطقة فتح عيون الإسرائيليين على الكثير من الأسئلة والمخاوف. في تلك الدوامة الإسرائيلية جاءت الضربة الفلسطينية الأقسى من خلال التقدم بطلب عضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة، والتي لاقت تجاوب واستحسان دول المنطقة قاطبة ومعها أكثرية دول العالم.

الخطوة الفلسطينية التي أعلن عنها "قبل عدة شهور، تمت قراءتها على أنها مناورة سياسية من قبل الرئيس محمود عباس، وبأسوأ تقدير سوف يرضخ الأخير للإملاءات والتهديدات الأميركية ومعها تمنيات ووعود أوروبية لم تقنع الأوروبيين أنفسهم بها، لأن أعواماً من المفاوضات لم تفتح أية نافذة على الأمل بتسوية تاريخية للصراع.

ففي منطقة تشهد تغيرات تاريخية على مستوى تعريف السلطة وأدائها، ووسط انزياح تركي سياسي استراتيجي، وفي لحظة تعمق الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة وأوروبا، أطلت القضية الفلسطينية بصفتها العنوان المركزي لقضايا المنطقة والعالم من خلال واقع استمرار فلسطين كآخر بلد يخضع للاحتلال، واستمرار الكيان الصهيوني كآخر كيان يمارس الاضطهاد والاحتلال والتمييز العنصري ضد شعب وأرض فلسطين.

الرئيس الفلسطيني في كلمته بالأمم المتحدة أعلن عدم ثقة شعب فلسطين بالمرجعية الدولية التي تحتكر ملف التسوية على الأرض الفلسطينية، فأعاد للأمم المتحدة دورها الذي لم ترده الإدارة الأميركية وإسرائيل وأوروبا.

والأهم من كل ما سبق أنه وضع الإدارة الأميركية أمام مصداقية تعهدها الذي أطلق منذ عهد أيزنهاور بالموافقة على قبول عضوية أية دولة تطالب بالانضمام إلى الأمم المتحدة وتتعهد التزام ميثاقها. هل ستكون فلسطين استثناءً في مضمون العهد الأميركي؟ حتى الآن يبدو أنها استثناء بالعرف الأميركي.

لماذا التبادل للأسرى الآن، وما المتغير في سياسة نتنياهو؟

1- لأن رئيس الحكومة الإسرائيلية بحاجة إلى تجميل الوجه الأيديولوجي لحكومة سدت كل منافذ العلاقة مع العالم وخسرت دولاً وعلاقات تاريخية واستراتيجية وبدت عارية وعاجزة عن تبرير سلوكها القومي والعدواني تجاه الجميع.

2- لأن أجهزة الأمن الإسرائيلية، وبعد 5 سنوات على اختطاف شاليط، أعلنت إفلاسها وعجزها عن تحديد مكان اعتقاله وبالتالي تحريره، ولأن الخطاب الرافض لمبدأ مبادلته بات ضعيفاً أمام صوت الرأي العام الإسرائيلي المطالب بعودته.

3- هذه الأجهزة، وبعد هروب السفير الإسرائيلي من القاهرة، أعلنت أن من مصلحتها تمكين مصر من الظهور أمام المجتمع الدولي كوسيطة ومنجرة لتوقيع صفقة التبادل لكي تستطيع الشروع بحوار استراتيجي مع مصر ما بعد مبارك، بحيث تبدو الصفقة جزءاً من كلفة ترميم العلاقة مع القاهرة.

فتوقيت موعد التوقيع على صفقة التبادل مع تقديم باراك اعتذار الحكومة الإسرائيلية عن مقتل الجنود المصريين الأربعة في سيناء يصب في خانة الحاجة الإسرائيلية لإعادة ضبط العلاقة الإيجابية مع مصر.

4-عملية التبادل التي تأخرت سنوات عن إنجازها، واستهلكت كل الأهداف السياسية التي سبقتها، باتت ضرورية لنتنياهو وحكومته من أجل تنفيس الاحتقان الداخلي من خلال الادعاء بإيفائه بوعد  إطلاق شاليط وإعادته سالماً إلى أهله قبل أن يلاقي مصير رون أراد الذي تبددت احتمالات إيجاده حيا أو ميتا. والإنجاز سوف يمهد الطريق أمام إعادة انتخابه رئيساً لحكومة إسرائيل العام المقبل.

5- الخطوة الفلسطينية بالذهاب إلى الأمم المتحدة رفعت وبشكل قياسي أسهم الرئيس الفلسطيني تجاه شعبه والعالم، جراء الخطاب الواقعي الذي فند الأكاذيب الإسرائيلية من جهة، وركز على السلام كضرورة للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي من خلال التزام الأمم المتحدة وقراراتها ذات الصلة.

بالمناسبة مبادرة الرئيس الفلسطيني بالذهاب إلى الأمم المتحدة أظهرت حماس وسلطتها غير ذات صلة بالقضية الفلسطينية، وبدا خطابها متقاطعاً مع الخطاب الإسرائيلي في معارضة الخطوة والتشكيك بجدواها.

المهم أن نتنياهو بحاجة الآن إلى قلب الطاولة الفلسطينية وتقويض المكانة المميزة للرئيس محمود عباس من خلال تكريس الإمكانات المطلوبة لإفشال مسعاه في الأمم المتحدة، ومن خلال إحياء الثقافة القائمة على التزام خيار المقاومة مقابل لا جدوى من خيار السلام والمفاوضات أيضاً، وهو الذي سيعيد- حسب توقعاته الاجرامية – مساحة المناورة لدى إسرائيل ويضعف احتمالات استمرار الحصار الذي تتعرض له إسرائيل إقليميا ودوليا.

خلاصة: حصار قطاع غزة يدخل في البعد الإستراتيجي الإسرائيلي، كمجال أمني سياسي، لا يمكن إنهاؤه في الظروف الحالية. تخفيف الحصار يلزمه استقرار لمؤسسة الحكم في مصر ما بعد الثورة، وسياق علاقات إسرائيلي مصري واضح المعالم والشروط.

أما عن الخبث الإسرائيلي الدائم، فلدى القيادة الفلسطينية كلها من المنعة وبعد النظر ما يكفي لترسيخ مكانة القضية والنهوض بها إلى حيث تستحق. كذلك فإن الفرحة بعودة الأسرى والرهائن الفلسطينيين إلى أهلهم وشعبهم كاملة وتخص كل ذي انتماء وامتلاء أخلاقي وإنساني ووطني. فهم بقدر ما عنوا حماس يعنون القيادة الفلسطينية بشخص الرئيس محمود عباس، لأن النضال في سبيل الحرية الكاملة للوطن والإنسان ترفده خطوات مباركة تصب في نهر العطاءات الفلسطينية العظيمة.

إنهاء الانقسام وتكريس الوحدة الوطنية هو التتويج الحقيقي لأي انتصار فلسطيني.