منذ بدء التحضير للانتخابات الأميركية طغى على المشهد الدولي شيء مما يمكن أن نسميه "سياسة الانتظار" لا سيما فيما يتعلق بالقضايا التي أثار فيها الرئيس الأميركي ترامب حالة من الفوضى في سياق سياسته الخارجية وهي قضايا متعددة أصابت أكثر من منطقة في العالم وأن كان بمستويات مختلفة، وبالمقابل كان هناك من سعى جاهداً للمساهمة في منح ترامب هدايا انتخابية ظناً منه أنها قد تفيده في معركته الانتخابية، وكان كلما اقترب تاريخ المعركة تصاعدت وتيرة حبس الأنفاس لكل من تضرر من سياسة ترامب ومن راهن عليه أيضاً، وشيئاً فشيئاً ومع المباشرة ببدء العملية الانتخابية وتدرج الإعلان عن النتائج بدأت تنخفض تلك الوتيرة إلى أن ظهرت النتائج شبه المؤكدة بخسارة ترامب لصالح مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن، ومعها دخل العالم وخاصة الدول التي كان لها نصيب من رعونة ترامب السياسية وبلطجته مرحلة جديدة من الإعداد والاستعداد وإعادة ترتيب الأوراق والأولويات.
قد نكون كفلسطينيين وعلى جميع المستويات الرسمية والشعبية الأكثر ترحيباً وابتهاجاً بنتائج الانتخابات الأميركية الأخيرة قياساً بمناطق وشعوب أخرى شاركت في مشاعر الارتياح والابتهاج، وإن كان هذا الترحيب ليس حباً بساكن البيت الأبيض الجديد جو بايدن بقدر ما هو كرهاً لترامب بسبب ما ألحقه من أذى كبير بالقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني جراء سياسته المنحازة بشكل مبالغ فيه لإسرائيل واستقوائه واستعدائه لفلسطين بكل مكوناتها، وهو أمر لا يحتاج لسرد أو تفصيل. ونقول ليس حباً ببايدن لأننا مدركون جيداً لطبيعة الانحياز الأميركي تاريخياً لإسرائيل من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ولكن هذا لا يعني عدم وجود اختلاف بين الحزبين في رؤيتيهما للتعامل مع الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وإن كانت منطلقات هذا الاختلاف بالأساس ذات علاقة بمصلحة إسرائيل أولاً، كما لا يجب ان نتجاهل ما تشير إليه الدراسات من التحول الإيجابي الجاري في صفوف مؤيدي الحزب الديمقراطي خاصة شريحة الشباب في فهم طبيعة القضية الفلسطينية والموقف من إسرائيل، ولا التحولات التي تجرى في المجتمع اليهودي – الأميركي بشكل عام، ولا بروز حركات مناهضة للعنصرية تتعاطف وتتفهم معاناة الشعب الفلسطيني.
من الخطأ فهم الترحيب الفلسطيني الحار بخسارة ترامب بوصفه رهاناً على بايدن بالمعنى الحرفي للكلمة، على اعتبار أن بايدن سيأخذ على عاتقه حمل القضية الفلسطينية وتحقيق آمال وطموحات الشعب الفلسطيني، ولكنه قائم على فهم طبيعة الاختلاف بين الحزبين وطبيعة التناقض الواضح بين شخصية الرئيسين ترامب الخاسر وبايدن المنتخب وهو ما بدا واضحاً في السياسات الخارجية التي تبناها ترامب وبين السياسات التي تضمنها برنامج بايدن وتصريحاته خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، والتي جاءت في العديد من نقاطها متعارضة ومتناقضة مع سياسة ترامب، ولهذا نقول إن المزايا التي حملها فوز بايدن للفلسطينيين وتجلت في اكثر من مسألة منها: رفضه لمشروع الضم والاستيطان والإجراءات أحادية الجانب، وتأكيده على التمسك بحل الدولتين، وإعادة فتح القنصلية الفلسطينية في القدس، وفتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وإعادة تدفق المساعدات للسلطة الوطنية وللشعب الفلسطيني واستئناف دعم الاونروا، هذه المزايا بمجملها يمكن فهمها في عدة اتجاهات، وأهمها على المستوى السياسي كونها توجه ضربة قاصمة لمشروع ترامب وفريقه "صفقة القرن" حيث تتعارض جميعها مع جوهر تلك الصفقة، وتبعاً لذلك فمن المتوقع أن يقود ذلك إلى تفكك التحالف الإقليمي الذي تم الإعداد له بين اسرائيل وعدد من دول المنطقة، والذي يمنح إسرائيل دوراً محورياً ومركزياً في الشرق الأوسط الجديد الذي بدأ تهيئة المسرح له، وهو ما سيساهم بشكل أو بآخر بوقف حالة الاندفاع نحو التطبيع مع إسرائيل وإعادة الاعتبار للمبادرة العربية للسلام كمرجعية عربية بشأن العلاقة مع اسرائيل.
أما على المستوى الفلسطيني فإن هذه المزايا تفتح نوافذ واسعة أمام القيادة الفلسطينية للخروج من عنق الزجاجة التي وضعها بها ترامب على مستويات واتجاهات عدة، بما يقود إلى تفكك حالة الحصار والعزلة التي سعى ترامب لفرضها على الفلسطينيين وتهميش وإضعاف القيادة الفلسطينية، ليس هذا وحسب ولكنها ستمنحها موقعاً وتأييداً أكبر بعد أن قرأ الجميع الرسائل التي عبر عنها الموقف الصلب والحاسم من القيادة الفلسطينية والرئيس أبو مازن تجاه صفقة ترامب وإدارته وقرارات الرئيس ومواقفه بهذا الشأن والتي رسمت الخطوط الحمر التي لا يُسمح فلسطينياً بتجاوزها أو الاقتراب منها من أي كائن كان مهما بلغت سطوته وجبروته، وهو ما سيقود إلى منح القيادة الفلسطينية هامشا وقدرة أكبر في ادارة العملية السياسية وفق قواعد وأسس جديدة تنسجم مع الرؤية التي قدمها الرئيس ابو مازن أمام مجلس الأمن في الحادي عشر من شباط 2020 حول الآليات والأهداف التي يجب أن تتضمنها أي عملية مفاوضات قادمة.
هذه المقالة لا تقدم قراءة مفرطة بالتفاؤل بعهد جديد يلبي طموحات وآمال الشعب الفلسطيني، وإنما محاولة لتقديم قراءة موضوعية لما يمكن أن يكون عليه الحال، فالتجربة الفلسطينية القاسية على مدار الأربع سنوات الماضية من حكم ترامب بكل ما حملته من اجحاف واستخفاف بنا كفلسطينيين إلا أنها حملت في ثناياها نقاط قوة ورصيد من الفعل الشعبي والسياسي والدبلوماسي من المهم استثماره وتوظيفه بما ينسجم مع الفرص المتاحة التي توفرت بفعل هزيمة وغياب ترامب ومشروعه، كما أنها منحت القيادة الفلسطينية قدرة أكبر على فهم وقراءة أعمق لطبيعة المواقف الدولية اتجاه القضية الفلسطينية، وكيفية إدارة تناقضاتها وتقاطعاتها بما يخدم الرؤية الفلسطينية في فرض قواعد وأسس جديدة لإدارة العملية السياسية في إطارها العام، والبحث في إيجاد آليات مختلفة تضبط ايقاع العلاقة مع الإدارة الاميركية الجديدة القديمة.
وفي هذا الإطار لا بد من الإشارة للدروس المستفادة من التجربة الفلسطينية القاسية خلال الفترة الماضية من عهد ترامب، وأهمها: أنه مهما تعاظمت وتكاثرت الخطوب والمحن والمؤامرات فإن الموقف الفلسطيني هو الأساس وأن كلمة "صمود" ليست كلمة عابرة في قاموس الشعب الفلسطيني وإنما هي كلمة السر والصخرة الصلبة التي تتحطم عليها كل المؤامرات، وبالتالي يجب الحفاظ دوماً على مقومات صمود المواطن الفلسطيني وتعزيزها كأولوية في استراتيجية القيادة الفلسطينية.
خلاصة القول إن فوز بايدين سيمنح الفلسطينيين الفرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الأولويات والتحضير للمرحلة القادمة، ولا نعتقد أن القيادة الفلسطينية بتلك السذاجة أو قلة الخبرة لتراهن على حدوث انقلاب في الموقف الأميركي مع بايدن، ولكن أيضاً لا يمكنها إدارة الظهر وتجاهل التغيرات التي سيفرضها غياب ترامب وفريقه، وما تحمله أجندة جو بايدن من مزايا توفر فرصة حقيقية لإدارة معركة استراتيجية أخرى قائمة على تثبيت قواعد وأسس وآليات مختلفة في إدارة العملية السياسية والعلاقة مع الإدارة الأميركية الجديدة، والأهم فرض هذه القواعد والأسس والآليات في إدارة العلاقة مع دولة الإحتلال الإسرائيلي خاصة فيما يتعلق بحياة المواطن اليومية وطبيعة وشكل ووظيفة السلطة الوطنية الواجبة التغيير.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها