في مرحلة غاية في التعقيد والمخاطر تمر بها القضية الفلسطينية، يأتي اللقاء التاريخي بمبادرة الرئيس محمود عباس وبمشاركة الأمناء العامين لفصائل وقوى العمل الفلسطيني في الوطن وخارجه، ليشكل بكل المعاني عودة الروح للجسد الفلسطيني، عودة الحياة لكافة أطراف ومكونات هذا الجسد الذي يتعرض هذه الأيام لمؤامرات متعددة الجبهات ومتعددة اللاعبين، تهديدات سياسية استمرت منذ الاعلان عن صفقة القرن المشؤومة وخطط الضم وما تلاها من تداعيات ومبايعات للاحتلال من تأييد وتطبيع واستسلام لشروطه، كل ذلك في ظل استمرار تفشي جائحة "كورونا" وما تخلقه من تهديد وبائي على صحة وسلامة المجتمعات ومن ضمنها المجتمع الفلسطيني وما تتطلبه مواجهة الجائحة من موارد وجهود وتركيز، والحال أصعب في ظل ظروف كالحالة الفلسطينية التي يتربصها التهديد والطعن من كل الاتجاهات.
لقاء تاريخي في مرحلة تاريخية ولغايات تاريخية، هذا هو عنوان اجتماع جاء تتويجًا لجهود كبيرة ومتواصلة تكللت بالنجاح لعقد لقاء جامع دون استثناء، لقاء كانت فلسطين هي القلب النابض واللسان الناطق بكل كلمات الأمناء العامين، الشارع الفلسطيني سئم الانقسام والتشتت، الانقسام الذي بات أداة ومبررًا لقوى خارجية للاستقواءعلى الموقف الفلسطيني وتبرير أفعالها، انقسام بات يستخدم من قبل الاعداء لتبرير إنه لا توجد قيادة واحدة وممثلة للشعب الفلسطيني يمكن التحدث اليها أو التفاوض معها، لقاء تاريخي وضع الأمور في نصابها الوطني الحقيقي، بيت فلسطيني جامع، كلمة فلسطينية موحدة، استراتيجة عمل لمواجهة المرحلة القادمة بلسان وطني تحتل فيه فلسطين نقطة الارتكاز، ويعتمد فيها القرار الفلسطيني على هذا الإجماع الوطني، فلا بيعة لأي أحد للحديث باسم فلسطين إلا لفلسطين، ولا تراجع عن الثوابت الفلسطينية المعلنة من خلال المؤسسات الفلسطينية منذ إعلان الاستقلال عام 1988، والتمسك بالشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية باعتبارها الإطار العام لمواقف الإجماع العربي لإنهاء الصراع.
هكذا بدت اللوحة في كلمات وتوافق الأمناء العامين مع الدعوة والخطاب الافتتاحي للرئيس، وهكذا تجسدت في البيان الختامي لهذا الاجتماع الذي نظم ونفذ بإرادة ورغبة فلسطينية خالصة، "شاء من شاء وأبى من أبى" فالوحدة الوطنية في القرار وعلى أرض الميدان هي بوابة العبور الآمنة رغم كل مخاطر المؤامرات وما يصاحبها من ضغوط ووساطات وابتزازات، لأن ضعف العامل الداخلي وتشتت البيت الوطني يشكلان مدخلاً ومطمعًا لكافة المتآمرين مع تنوع غاياتهم وأساليبهم ودوافعهم.
الرئيس أطلق العنان للعمل الجاد دون أي "فيتو" على أحد، معتبراً أن الفيصل في اختبار هذا اللقاء هو الترجمة العملية والتنفيذية لما تضمنه اتفاق المشاركين على أرض الواقع، انطلاق لجان العمل المشترك لوضع خارطة طريق متكاملة للمرحلة القادمة، انطلاق العمل الشعبي لرص الصفوف وتوثيق علاقة الفصائل مع الفلسطينيين في الوطن والشتات، لتعزيز وحدانية البيت السياسي والمشروع القيادي للنظام السياسي الفلسطيني، على أساس الاستقلالية والتمسك بالثوابت الوطنية وقرارات الاجماع والتوافق الوطني، "فلا دولة في غزة ولا فلسطين دون غزة والقدس"، هذه هي معالم الطريق للمرحلة القادمة، مرحلة سيلتف حولها كل الفلسطينيين في الداخل والخارج وفي كافة أقطار اللجوء والشتات، لانها طريق النجاة وبوصلة العمل الصحيحة لمرحلة ستشهد تغييرات جوهرية على صعيد العلاقات والتحالفات والمواقف الدولية والاقليمية.
نحن مقدمون على مرحلة حقيقية من حيث اختبار الخطوات والنوايا والاستعدادات لإعادة تعزيز دور ومكانة منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، مرحلة تتطلب تكاتف وتكامل الجهود لصالح التجميع تحت سقف البيت الواحد والقيادة الواحدة، مرحلة تتطلب استثمار كافة الموارد والطاقات في الضفة وغزة لتعزيز الكيان السياسي الواحد، مرحلة تتطلب الابداع الخلاق من كافة مكونات الشعب الفلسطيني في كافة اماكن تواجده لتوثيق علاقاته مع الشعوب والقوى الحية لإعادة الحياة والروح للتضامن العالمي مع القضية الفلسطينية، فالنجاح في الانشغال في أنشطة العمل الوطني الموحدة كفيلة بتعزيز اللحمة الفلسطينية وكفيلة بإعادة البريق لقضية العرب والمسلمين الأولى، هذه هي أولويات العمل على أرض الواقع خلال قادم الأيام.
المواقف الاقليمية والدولية لا تتغير بالنوايا والدعوات العامة ولا تتغير بين ليلة وضحاها، هذه عملية متواصلة من الفعل ورد الفعل، والاستمرارية والعمل دون كلل هو المعيار والخيار لتحقيق التغيير المطلوب في المواقف، أصدقاء الشعب الفلسطيني يتعززون وتزداد قوتهم كلما وصلتهم رسالة ومواقف الوحدة الفلسطينية، وهذه هي كيمياء التضامن بين الشعوب حول القضايا العادلة، الضعف يولد التراخي، والتراخي يخلق بوابة لعبور مشاريع وأفكار الاستسلام، نحن بأمس الحاجة لتعزيز تضامن الشعوب العربية والصديقة في هذه المرحلة، وهذا تحد عملي لكافة الجهات المعنية على المستوى الرسمي والشعبي ومنظمات ومؤسسات المجتمع المدني لتحقيق خطوات ملموسة على هذه الجبهة.
درس مهم تعكسه مبادرة اجتماع الأمناء العامين لفصائل العمل الوطني، إنها تجسيد لإعادة الروح والحياة للوحدة التي يتوق لها أبناء شعبنا ومناصروه في كل مكان، في الوقت الذي يشهد فيه خصومنا معارك طاحنة على مستوى نزاهتهم السياسية وتطاردهم قضايا الفساد والمحاكم والمتظاهرون ضدهم في كل مساء، علينا التقاط هذه المبادرة لأنها علامة قوة قد لا تُرضي الاعداء والمتربصين، لكنها خطوة مهمة لمصلحتنا ومستقبل قضيتنا، علينا البحث عما نتفق عليه ونبني عليه لتقليص مساحات الاختلاف مهما كانت، وعلينا إدارة خلافاتنا داخل سقف البيت لا خارجه، لأن التجربة أثبتت أن الخلاف والتعلم منه داخل البيت هو عنصر قوة.
لقاء سيكون له ما بعده وستترتب عليه خطوات مهمة في كافة الاتجاهات، قد لا تكون سهلة وقد يتربص العدو لوضع العصي في الدواليب، لكن الإرادة الوطنية الخالصة والموقف الجمعي ينبغي أن يقوى على كل ذلك، لأن تحصين البيت الداخلي هو الضمان لفشل المتآمرين، والتقدم خطوة سيخلق المزيد من النجاح، والنجاح الجديد سيزيد من التفاف الشعب الفلسطيني حول القيادة وخططها وسيخلق صوتًا أقوى لالتفاف الاصدقاء وتعزيز مواقف المترددين للعودة إلى منصات ومواقف الاجماع المناصرة للحقوق والقضية الفلسطينية.
لقاء الأمناء .. البيت الفلسطيني أولاً
06-09-2020
مشاهدة: 274
عبير البرغوثي
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها