شجرة الزيتون ليست مجرد شجرة مثمرة، انها رمز للصمود والتحدي وفلسطينية الأرض منذ منذ مئات السنين، انها شهادة خالدة على رؤوس الجبال بأن اليد الفلسطينية عمّرت وما زالت تبني تلك الجبال، وكل يوم تولد شجرة صمود جديدة، هذه هي حكاية موسم قطاف الزيتون في فلسطين، ارث من أجيال مضت، وأمانة لاجيال قادمة، تموت الايام تباعاً وتبقى أشجار الزيتون صامدة تؤرخ للقادم من أجيال وايام، فالزيتونة باقية ما بقيت هذه الارض، فسلام عليك زيتونة فلسطين رمزاً للعطاء وعنواناً للصمود رغم قساوة الايام.
هذه الايام نشهد كما كل عام موسم الزيتون الفلسطيني، موسم الارض وعودة الانسان الى شجرة العطاء والصمود، موسم العونات والإعمار واعادة الحياة لعلاقة الفلاح والمزارع والموظف والطالب مع تراب الارض الغالية، موسم الصغار قبل الكبار، موسم يعيد للحياة في جبال فلسطين روحها ورائحة تراثها العتيق. ومن عام الى عام تتجدد أشجار الزيتون بعطاء وخير جديد رغم محاولات استهدافها بالاقتلاع والتكسير والتجفيف من قبل اعتداءات المستوطنين، كما تتجدد رغم محاولات عزلها عن أهلها بقرارات المنع الاسرائيلية المجحفة واخطارات التهديد والحصار والمنع من الوصول اليها، مخاطر كبيرة تحيط بالمزارع الفلسطيني قبل وخلال وصوله الى حقول الزيتون، وللأسف فإن حجم المخاطر تزداد من عام الى آخر، ومع ذلك يستمر الإصرار والعزم على احياء موسم قطف الزيتون وتزهو حقول وجبال فلسطين بالفرح الذي تطلقه صيحات المزارعين واصوات الاطفال والشباب من كل الأعمار وهم يتحلقون حول أشجار الزيتون، ويصدح صوت مزارع وصل اطراف التسعين من العمر ببيت من العتابا الفلسطينية يتردد صداه بين الاودية والجبال وتتراقص على أنغامه حبات واوراق الزيتون، هكذا يكون طعم الفرح حينما تمتزج رائحة الزيتون واصوات المزارعين، ومنها تولد قصص البطولة ويتشكل التراث وتحكى قصص الاجداد ليتذكرها الاحفاد.
تحتضن فلسطين نحو 12.5 مليون شجرة زيتون يصل عدد الاشجار المثمرة منها نحو 10 ملايين شجرة وفقا للمصادر الرسمية، إنها بترول فلسطين الأخضر اذا ما أحسن التعامل معها من الانتاج للرعاية والتسويق، وهي بوابة مهمة لاستقلال اقتصادنا الزراعي لما يوفره هذا القطاع من فرص تشغيل تشمل مختلف القطاعات ذات العلاقة بالزراعة والتسويق والنقل وحتى العلاقات العامة داخلياً وخارجياً، اضافة لميزة مهمة لهذا القطاع لكونه قادرًا على استيعاب العمالة الماهرة وغير الماهرة لما يتضمنه من أنشطة تناسب الجميع.
موسم الزيتون ليس مجرد تجميع لحبات الزيتون في بضعة ايام، إنه موسم اجتماعي بكل ما تحمل الكلمة من معنى، موسم التعاون وموسم العطاء دون حدود، فقد أبدع الفلسطينيون ومنذ القدم في ابتكار أشكال التعاون المشترك للتغلب على المخاطر والصعوبات، فنشأت عندهم منذ القدم ظاهرة "العونة"، حملة يقوم القادرون فيها على مساعدة وإعانة المتأخرين في قطف ثمار الزيتون، ما اجمل أن تشعر أن من حولك يهتمون بك، ينظمون أنفسهم ويتداعون لمساعدتك دون شروط، والابداع في فكرة "العونة" منذ القدم أنها تطوعية، وكل من يشارك بها يحضر أدواته وزوادته/طعامه, معه ليشارك الجميع ولتخفيف العبء عمن يقدمون له العونة، انها طقس من التعاضد والتماسك المجتمعي، جسّدها الاجداد حتى لا يبقى احد متأخرًا في جمع محصول الزيتون، هذا السلوك المجتمعي العفوي بمساعدة الجميع، سواء أكانوا أسرًا من كبار السن او أسرًا تحتاج للعونة لأي من الاسباب، مارسه الفلسطينيون منذ القدم، منذ عشرات السنوات، وهكذا كان يبدأ المزارعون معًا وينتهون معًا، لا أحد يُترك وحيدًا بين الحقول أو بين الوديان، وحينما سألت أحد المزارعين عن أسباب العونة وقيمتها، أذهلني ذاك الفهم العميق لأبعاد العونة وعلاقتها بالتنمية المستدامة، فالعونة تساعد على عدم ترك المزارع يتأخر عن الموسم وتساعده على الانتهاء من قطف وعصر وبيع الزيت والزيتون في الوقت المناسب، لأن تأخره يعني الوصول متأخرًا للمعاصر وربما تكون قد أغلقت، وحتى لو وصلها متأخرًا فقد لا يتمكن من تسويق زيته لأن السوق يكون قد أشبع، وبالتالي ضياع الموارد وضعف القدرة على تغطية تكاليف الحياة، والبعض لن يجد تكاليف تعليم ابنائه او رعايتهم الصحية، فالمزارع كان يعتمد على إيرادات موسم الزيتون لتغطية كل شيء، وكان يستدين على الموسم، فإذا ضاع الموسم ضاع كل شيء، لذلك كانت العونة طوق نجاة للمزارع وأرضه والتخلص من ديونه وتحرير ما رهنه على عائد الموسم، هكذا كان المزارعون لا يتركون بعضهم فريسة للتأخير، أو ضحية لظروف الطبيعة، ولذلك كان اليوم الاخير من الموسم يشهد ما يشبه الفرح الشعبي، من توزيع الهدايا والشروات من الزيتون للأطفال، وبعد عشرات السنين نجد العالم يدرك صحة هذه المقولة فيطلق شعار اهداف التنمية المستدامة " حتى لا نترك احدا في الخلف"، حق للمزارع والفلاح الفلسطيني ان يفخر بتاريخه ومبادراته، فقد عرف التعاون وتشبيك الايادي وبناء الجسور والعونة حتى لا يبقى اي فلاح عالق في ارضه وحيداً، فالتحية لأجيال حفرت لمن يأتي بعدها طريق المجد والعزة والكرامة.
هذه الايام يستمر الإبداع الفلسطيني على نحو يراعي ويواكب تطورات العصر، فاذا كان في القديم يحضر المشاركون في العونة ادوات عملهم البسيطة، وطعامهم وشرابهم معهم للتخفيف عمن يقدمون له العونة، فقد أبدعت الاجيال الجديدة أفرادًا ومؤسسات قصص نجاح وتميز مستوحاة من ابداعات الاجداد، فقد قدر لي أن اشارك في يوم تعاوني خلال هذا الموسم مع الاسر الفلسطينية، وكم جميل ان ترى كبار السن من الرجال والنساء، والشباب والاطفال من مختلف الاعمار يتسابقون على طقوس موسم الزيتون، من الصباح وحتى المساء، لو يعلم المستهلك ان هذا الزيت الذي بين يديه، جمعته أيدي شيوخ ونساء وأطفال حبة حبة، جمعته من على أغصان الاشجار ومن بين الأحجار ومن بين الاشواك وتحت الحر الشديد قبل ان يصل الى ما هو عليه من عبوات زيت للاستخدام.
ابداعات الشباب ترتبط بتقدير واحترام كبير لموسم الزيتون باعتباره طقسًا وطنيًّا بامتياز، والارتقاء بأفكار ومبادرات تعزز هذا الموسم الشعبي لها دور مهم لتعزيز الصمود وتعزيز ارتباط المزارع والفلاح بأرضه، ففي وسط النهار ورغم شدة حرارة الجو، تجد مجموعات من الشباب الذين يتجولون بين الحقول يوزعون رزم من الطعام المعلب وبعض المشروبات، وأخرى تعرض المساعدة والعونة وخاصة لأسر كبار السن، نماذج متنوعة أبدعت فيها المؤسسات الفلسطينية الخاصة والعامة للتواصل مع الناس في حقول قطف الزيتون، إنها نماذج مجددة للتعاون، وعلينا ان نتذكر ان الجامعات الفلسطينية كانت من السباقين لتنظيم مخيمات قطف الزيتون، وكانت ساعات مساعدة الاسر من ساعات العمل التعاوني والمجتمعي الواجب على الطالب إتمامها كاستحقاق لشهادة التخرج، اضافة الى أن هذه الانشطة كانت ايضاً تعليمية وتوعوية لمن ليس لهم معرفة بالزيتون والزراعة للاقتراب بشكل عملي مع جذور الصمود ممثلة بشجرة الزيتون ايقونة الصمود والبقاء ورمز المقاومة.
كما يقول احد المزارعين ممن التقيتهم، "موسم الزيتون سنة ماسية وسنة شلتونة" أي أنه في سنة يكون الموسم غنيًّا ووافرًا وفي سنة أخرى يكون متواضعًا، لكن على الجميع مزارعين ومؤسسات معنية وضع موسم الزيتون على رأس استراتيجيتنا الوطنية لتنمية قطاع الزراعة، فشجرة الزيتون ثروة حقيقية، ورعايتها والحفاظ عليها يعززان من صمودنا وتحافظ على هوية الارض والانسان، فإذا ذهبت شجرة الزيتون ذهب الإنسان وضاعت الارض.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها