من الضروري إعادة التأكيد، أن وعد بلفور المشؤوم لم يكن وليد اللحظة، التي صدر فيها، في الثاني من تشرين ثاني/نوفمبر 1917 عن وزير خارجية بريطانيا، وإنما كان حصيلة إرهاصات أوروبية جمعية، وجاء لأسباب استعمارية إمبريالية حددها مؤتمر كامبل نبرمان 1905/ 1907، الذي وضع الخلفية الفكرية السياسية والاقتصادية الكولونيالية لإقامة جسم غريب وسط شعوب الأمة العربية لتفتيت وحدتها، ونهب خيراتها، والحؤول دون نهضتها، ولوأد وإقصاء المشروع القومي العربي النهضوي.

ونجحت أوروبا في تحقيق مآربها الاستعمارية في المنطقة من خلال شراء ذمم العديد من الملوك والأمراء العرب عبر تنصيبهم على دويلات رسمت حدودها في اتفاقية سايكس بيكو 1916، اي قبل الإعلان عن الوعد بأقل من العام، تمهيدا لصدوره، وهو ما حصل مع تهيئة وتحضير أداتهم الحركة الصهيونية لتنفيذه على الأرض، من خلال إقامة وطن قومي لها في فلسطين على حساب اصحاب الأرض الأصليين الفلسطينيين العرب. وهيأت كل الشروط القانونية والسياسية والاقتصادية والديمغرافية للمشروع الاستعماري الجديد. 

ورغم ان قرار التقسيم الدولي 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين ثاني/نوفمبر 1947 قضى بإقامة دولتين على أرض فلسطين التاريخية، غير ان الإرادة الدولية تخلت عن مسؤولياتها بإقامة الدولة الفلسطينية، ولم تترجم شقي القرار، ليس هذا فحسب، بل سمحت للدولة الصهيونية الوليدة بالسيطرة على 78% من مساحة فلسطين التاريخية، ومزقت أوصال الدولة الفلسطينية، وساهم بعض العرب بذلك من خلال عملية الضم لجزء منها لبعضها، ووضع الجزء الآخر منها تحت إدارة دولة أخرى، وأبقى ما سيطرت عليه إسرائيل لها، مع ان القرار استند إلى الفصل السابع في نقطتة C، التي تضمنها، وتقول، إن الأمم المتحدة لن تسمح بسيطرة أي طرف على اجزاء من اراضي الدولة الاخرى، وستستخدم القوة لإعادتها. لكن شيئا من ذلك لم يحدث.   

ومع حلول الذكرى الـ102 لوعد بلفور المشؤوم، مازالت بريطانيا خصوصا وأوروبا عموما تراوح مكانها لجهة عدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية القائمة والموجودة على الأرض المحتلة في الخامس من حزيران/ يونيو 1967 مع إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية في أعقاب اتفاق أوسلو 1993. رغم كل التقدم النسبي في مواقف دول الاتحاد الأوروبي لجهة دعم خيار حل الدولتين على الحدود المذكورة آنفا، ومع انها قدمت وتقدم الدعم المالي والاقتصادي لدولة فلسطين المحتلة، لا بل تعتبر المانح الأول لموازنتها، إلا انها لم ترقَ إلى مستوى المسؤولية السياسية والديبلوماسية تجاه الاعتراف الرسمي بها، وبقيت أسيرة الفيتو الأميركي الإسرائيلي. 

كما ان بريطانيا صاحبة الوعد المشؤوم رفضت الاعتراف بمسؤوليتها التاريخية عن نكبة الشعب العربي الفلسطيني، ولم تعتذر للشعب والقيادة الفلسطينية عن جريمتها النكراء حتى الآن، التي نتج عنها عشرات ومئات الآلاف من الضحايا بين شهيد وجريح وأسير، فضلا عن تشريد وطرد حوالي المليون نسمة من ابناء فلسطين العزل عام النكبة 1948، والذين تركوا املاكهم وبيوتهم، ومصانعهم ومؤسساتهم ومستشفياتهم ومدارسهم ومزارعهم وبياراتهم وطرقهم وسكك حديدهم وثرواتهم، التي تقدر الآن بمئات المليارات من الدولارات، لا بل انها تكابر وتصر على جريمتها، جريمة العصر الحديث، وتجاهر بوقاحة المستعمر على ما ارتكبته تحت غطاء واه وكاذب ومناف للحقائق التاريخية والقانونية والسياسية. 

غير ان مرور الـ 102 عام على الوعد المشؤوم، لم ينسِ الشعب الفلسطيني حقوقه التاريخية في ارض وطنه، ولم يسلم بمنطق الغرب الرأسمالي، ولا بوحشية القوة الإسرائيلية الاستعمارية، ولم يخش بلطجة وتغول وصلف الولايات المتحدة، الذي فاق كل منطق القوة والغطرسة في زمن إدارة الرئيس الأميركي الحالي، دونالد ترامب، ومازال يطالب بالحد الأدنى من حقوقه السياسية على ارض وطنه الأم، ويطالب بريطانيا خصوصا ودول الاتحاد الأوروبي جميعها بالآتي: اولا الاعتذار الصريح والواضح للشعب الفلسطيني عن إصدار الوعد المشؤوم؛ ثانيا الاعتراف الفوري والمباشر بالدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وضمان عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم الأم على اساس القرار الدولي 194؛ ثالثا فرض العقوبات الاقتصادية والتجارية والديبلوماسية على دولة الاستعمار الإسرائيلية لإلزامها باستحقاقات السلام وخيار حل الدولتين؛ رابعا تعويض الفلسطينيين عن خسائرهم التاريخية وعلى مدار الـ71 عاما من قيام دولة إسرائيل. وهذا هو الحد الأدنى والمقبول من القيادة والشعب الفلسطيني.