في العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) 1956 اقترفت قطعان جيش الاحتلال مذبحة قلقيلية بنسف مبنى"المقاطعة" على مَن فيه، فسقط ثلاثة وسبعون شهيداً، وبعد أقل من عشرين يوماً واصلت عصابات جيش القتل مجزرتها، فتوجهت إلى بلدة كفر قاسم، وحصدت تسعة وأربعين روحاً، لتؤكّد دولة الاحتلال أن كيانها قام على المذابح والدماء والاستباحة العمياء المتواصلة، وأنّها جعلت تقويمنا الفلسطيني اليوميّ مُرنّقاً بالنجيع الذي لم يتخثر حتى الساعة.

وإذا عاودت تفحّص صورة "كفر قاسم" في ذكرى مذبحتها الثالثة والستين المصوّحة، سيتراءى لك أن ألف حصان وحشي يُحاول الخروج من النهر، وأن الرذاذ الناري يتناثر في كل اتجاه. أو أن كل البراكين المخزونة قد تفتقت وراحت تصّاعد بغيومها الحمراء، الفوّارة، وتتكوم، وتجري في جداول ساخنة، راسمةً لوحة جحيم أخّاذ، سيسحب في تضاعيفه كل فقاعات الهواء والعدم الرديء.

أو أنّ غابةً بالبَرْقِ الذي يشقّ العتمات قد امتلأت بالماء، الذي راح يطفو، حاملاً معه الشجر الذي فارق عَرْشه الأبدي إلى البعيد. أو أنّ رجلاً له ملامح التقاء الساحل بالجبل، على رأسه إكليل كرز، وفي عينيه حلم مُعجِز، قد وُلِد في زاوية الراوية في العقد القديم، ذات خريف دافق، فامتلأ بالشّهد، وجرى مع السحاب الأليف، وحفظ النشيد أو آية التراب، وكان اسمه الشهيد.

***

لكفر قاسم جُرأةُ الموسيقى، وفي صوتها شرايينُ الشهداء ودمع الجُلنّار الحزين. وفي ناظريها مقاصل الليل التي أودت بِدير ياسين وقانا والحرم الإبراهيمي والأقصى وقلقيلية وقبيا وصبراوشاتيلا وأبو شوشة وخانيونس، والقائمة لا تنتهي .. وبين يديها السريّس الذي امتصّ ريق الصخر المغسول بدم الشيخ. وعلى قدميها البلّور النادي في الفجر. وفي ظهرها تتنفّس البشرية الخارجة إلى خلاصها، والضبع يلوك حقائب صغارها المذعورين>

ومن فوقها غزلان الغيم الحارسة للساحل والأبجديات والزيت والقلاع. وفي كل خليّة تنبض في جُرْمها، تتضوّع القدسُ بزيتونها وقبابها وشرفاتها الباذخة، باللبلاب والمنثور. وفي غَدِها موّال النّصر وانبلاج الغرف وأجراس القوافل العائدة بالحنّاء.

وفينا كفر قاسم إلى أبد الداهرين. ويكفي أنك أنت الباقية أيتها الذبيحة.

***

أيها الشهيد!

تغريك الصفحةُ البيضاء، فتعلو إليها بالرصاص اليانع، لتفوح رسمةُ البلاد؛ من الكرمل إلى عباءة القِرفة، ومن الليمون إلى تلال القمر.

لعلكَ تريدها أن تنبسط أمامك دون حواجز وأسوار عنصرية، وبلا مقابر جماعية أو إبادة للأقواس والساحات.

لعلكَ تكره البَطل الذي نما فيك، وتريده أن ينتهي من مهمّته الخُرافية، ليبدأ زمن الفراديس على هذه الصفحة المدمّاة، لترجع بشراً عاديّاً يأكل العكّوب، وينام على فَوحَان الكستناء، ولا يبهظه طول الانشغال بأولئك الضحايا الذين يتكاثرون، كُلّما رفع الجنرال الساديّ أو الحاخام قُبَّعَته فوق طوفان الجثث التي أُتْخِم بها.

ولعلكَ تريدُ أن تتخلّص من شظايا الزجاج المطحون الذي يسمّم صدركَ، لكثرة ما دفعوك إلى كراهية الأموات، وهم يدورون كالأشباح بين البيوت، ليأخذوا رضيعاً من ضلوع الصوف.

ولعلكَ مَلَلْتَ قتال الشائهين، الذين ضاق بهم البرّ والبحر ليمنعوك من بلدتك البيضاء. وتريد أن تستريح تحت عريشة الضحى دون ضجيج.

ولعلكَ لم تكمل سيناريو ما بعد الحرية، لأنهم غرزوا في ظهرك رُمح الغَدْر، وأعشوا عينيك بِمُسيلات العار، وانكشفوا أمامكَ كما هُم، تماماً، وحوشاً بشفرات شائخة تخثّر فوقها دمُ الطير البريء.

***

حال المدائن من حال بلابلها وشنّارها وعصافيرها. باختصار؛ البلاد تشبه طيورها. فإذا جنّحت كما شاءت، وبَنَتْ أعشاشها على أهوائها، وغرّدت على أفنانها، وضمّت زغَبها في الوكنات، رغم مزاج الفصولِ، فهذا يعني أن أكتاف الأزقة تعبق بالنرجس، وأنّ الحوش تجلّله الجدّات بالحكاية المستحيلهَ، وأنّ الراعي يعود وهو يلوّح للذئاب باللقاء، وأنّ النجمة ستجد طريقها الخفيّ إلى صدر الكمّثرى، وأن المرايا تعمّ بالسِحر وطيّات العرق، وأن الحنين سيصل إلى نداءات المساطيح، لترقص أعراف الحصان، ويضرب بحافره الكهرماني أرض العيد.

فَيَا أيّها الذيّال! تناسخ نيازك في غلالات اللانهاية المُشرعة، وافْهَقْ في شوارع المجّرات .. لتصحو كفر قاسم .

***

يدقُّ عِرقُ الرّقبة، وتستنفرَ قواكَ المُعطّلة، وتلفّ ألف مرّة حول الكوكب. أضواء الدوريات تفشّى، والكشّافات تجعلُ هزيع الخريف حريقاً مدوّياً، والجنود بأثوابهم الحديدية كالدببة يطوّقون الحارة، وعلى البوابات قَبضَاتٌ وصَخب ورَطْن وضوضاء!

يدخلون بلا هدى، وينتشرون في الغُرف والمطبخ والصالة والشُرفة، يفتّشون كل شيء ويقلبون كل قائم ونائم .. ويطلقون رصاصهم الطائش المجنون على كل شيء!

***

يا كفر قاسم!

يا اسم العسل والنار والندى الذي انجبل فأصبح قوام المرأة، التي تصهل في صدرها الخيول، وتفحّ في ذراعيها الحمائم، وتتفجر الينابيع الجوفية من جدائلها .

يا سرّ اللؤلؤة المختومة، التي أكملت ضوءها تحت عباءة الغيم وتفتحت نجوماً ذهبية في الحقول. يا كفر قاسم!

يا نداءنا في الدمع وجروحنا في الناي وشهوتنا في الجرار. يا أُوار الماء في الليل ويا نرجسة الفصول وموقدة الوجاق. يا جرحنا المبذول للشتاء، حتى ترتوي الهامة والفرس. يا جرس البعيد وصورة الجدار وشال الحرير الذابح في غربة السنين! يا حروف الجائح والثاكل، ويا نبل اليتيم الذي يتغيّا من الفراغ يداً تمسّد رأسه وتحضن أوجاعه الغامضة.

يا بيتنا المفتوح منذ قرن للزغاريد المقتولة ويا فرحتنا المرتقبة، ليعود المفتاح إلى البيارة والبحر. يا شجن الصوّان ويا نعاس الصبر الذي هدّه الحديد والغبار. يا انتظار المعجزة الأكيدة لنتحلّق حول أُمنا ثانية، وهي تخضّ القمر ونرتوي من حليب التين، ونشرق بدمِ الرمّان.

يا كفر قاسم! يا مواويل الرّهام، الذي يضمّخ السواحل ويزوّج السرو والحمام. يا زوغان المهاجر يهتف في الليل والصقيع والنسيان. يا حقيبة الصغار وتلاوين العيد وبراءة الرسائل المخبأة. ويا طرحة الحصاد وانفراط البيدر تحت رخام النحيب.

يا ذبيحتنا المقدّسة! يا مليون شاهد في كل اتجاه، ويا بوصلة واحدة للزيتون وثدي الأرض الأقرب إلى السماء. يا انفعال العصافير حول حابون العصر الزاخر، ويا رجوع العتبات والنعناع وحبق الأماسي في الطرقات. يا كفر قاسم! يا رحماً يلد الجبال ويمور بالوديان ويذرعها بالظباء، ويصعد إلى التلال بفضّة الحصان المجنون. يا أبجدية الذين سيعودون كاملين إلى الرواية، ليتجلّى النبيّ مرةً أخرى، بمنجله، ولا تعلو به الريح إلى الجُلجلة . يا نوْمتنا المؤقتة لنصحو على العرس والمهرجان، وننعف الأرز على الزفّة المطهمة، والطفل يتراءى لنا في الحضور.

يا كفر قاسم! أكملي زينتك، فإن الحفيد ابن الشهيد يحفظ القصيدة كاملة دون نقصان.