نحن الشعبَ الفلسطيني معنيون أكثر من غيرنا بأن نفكِّر مليّاً قبل الاقدام على أي خطوة، لأنَّ أيَّ خطوةٍ في الفراغ قد تنعكس سلباً على واقعنا، وعلى شعبنا. صحيح أننا شعبٌ مثل باقي الشعوب، لكنَّ ما يميزنا هو أننا شعبٌ مُبتلى باحتلال أرضه، وتشريد أهله، وتهويد مقدساته، وهو دائماً في عين العاصفة، وسهامُ الاستهداف تلاحقه، وتطارده في بلاد الغربة، وفي أرض الوطن، فهو بيت القصيد، وهو المؤتمن على قضيته منذ ما قبل النكبة، وبعد النكبة، مروراً بمفاعيل النكسة، وصولاً إلى الاجتياحات، وتدمير المخيمات، والمجازر والمذابح، والحصار تلو الحصار، والحرب تلو الحرب على قطاع غزة.

من خلال فهمنا لواقعنا، ومعرفتنا بما يحيط بنا، وما ينتظرنا على كل المفارق، فنحن صنَّاعُ القرار، ولا نقبل أن نعيش على الهامش. وما نمر به من أزمات، وما نعيشه من تحوُّلات، ومنعطفات، هذا كله يفرض علينا شئنا أو أبينا أن نكون موضوعيين، وعقلانيين، نتخطى حقول الألغام، والافخاخ بحذر شديد، وحسابات دقيقة تخدمُ فلسطين القضية، وشعبها المكافح والمعطاء، الذي قدَّم قوافل الشهداء، وهذا يعني أنَّ فلسطين هي أولاً، وليس هذا الحزب أو ذاك. فلا مجال للحسابات الضيقة، ولا التكتيكات الاستهلاكية، ولا المناورات العبثية.

ففي الوقت الذي تعمل فيه الولايات المتحدة على تصفية القضية الفلسطينية، وتدمير الحقوق الوطنية، وتفريغ المشروع الوطني من أهم مقوماته، بما في ذلك نسف حق عودة اللاجئين إلى أرضهم، واعتماد القدس التي هي عاصمة دولة فلسطين لتكون عاصمة إسرائيل الصهيونية، إضافة إلى تكريس الدولة القومية اليهودية، وذلك على حساب إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، وعاصمتها القدس الشرقية. في هذا الوقت بالذات أُثير موضوع العمالة الأجنبية من قبل وزير العمل في لبنان، وأصبح السؤال المركزي والجوهري هو هل العامل الفلسطيني ينطبق عليه ما ينطبق على العمال من جنسيات أُخرى، أم أن هناك خصوصية للعامل الفلسطيني تتطلب مراعاة أوضاعه كلاجئ فلسطيني إلى لبنان منذ العام 1948، في ظل ظروف عسكرية وأمنية، واجتماعية مُدمِّرة، أجبرته على الرحيل بعد أن رأى المجازر بأم عينه؟

وهنا نطرح السؤال الجوهري على الجميع: هل المطلوب من الانسان الفلسطيني كشعب أن يدفع الثمن قبل النكبة أي منذ وعد بلفور، وأيضاً أثناء النكبة عندما ارتكب الصهاينة سلسلة من المجازر الدموية في الأراضي الفلسطينية، وهي التي أجبرت قسماً كبيراً من شعبنا أن يغادر أرضه مؤقتاً ريثما تنجلي الأمور. وللأسف فإنَّ المؤامرة كانت كبيرة لأنها تستهدف الأرض الفلسطينية، بعد تشريد الشعب الفلسطيني بقوة النيران وعنف المجازر.

ما ذكرناه من حقائق يفرض علينا التوقف أمام بعض الظواهر التي شاهدناها خلال الأيام القليلة الماضية التي شهدت احتجاجات واسعة، وبأشكال متباينة:

أولاً: هناك قرارات تم اتخاذها في لبنان سواء ما يتعلق بحق العمل، أو بحقوق التملك، وفيها ظلم للفلسطيني لأنها تعاملت مع الفلسطيني كأجنبي، وقد جرت في السنوات السابقة حوارات فلسطينية لبنانية لإيجاد مخارج، ولكن لم يتم التفاهم، لأن هناك أطرافاً لبنانية لها مواقف متباينة في هذه المواضيع، وهذا ما يؤخِّر عملية التوافق. ولكنَّ الجانب الفلسطيني لم يخرج عن مواقفه الرزينة، وعن مبدأ الحوار المسؤول مع الأطراف اللبنانية، لأننا نقدِّر حساسية الوضع الداخلي في لبنان، وبالتالي ليس أمامنا من وسيلة إلاَّ تفعيل الحوار المسؤول مع الأطراف المعنية، ونحن نؤمن بأننا سنصل إلى حلول تخفف الأعباء عن المهجَّر الفلسطيني من أرضه قسراً .

ثانياً: نحن في إصرارنا على أنَّ الحوار المسؤول مع الجهات اللبنانية المعنية هو المخرج الحقيقي للأزمة الحالية، فإنَّ ذلك ينبع من أنَّ العلاقة اللبنانية الفلسطينية علاقة أخوية، ونضالية ضد الاحتلال، وهي علاقة تعايش اجتماعي، ومشاركة في كافة المناسبات وهناك تفاعل فكري وسياسي وإعلامي بين مختلف القوى.

ثالثاً: نحن ندرك أنَّ لبنان دولة مستقلة، ولها دستورها، ومن حقها أن تحدد علاقاتها، وأن تأخذ قراراتها، وهذا شأن داخلي، ولكن ما نطلبه من لبنان كدولة توأم لفلسطين في مواجهة الاحتلال، ودعم الحقوق المشروعة لشعبنا، هو التعامل مع الانسان الفلسطيني كصاحب قضية معقدة أولاً، وثانياً أنه لاجئ قسراً من أرضه فلسطين بعد مجازر النكبة الدموية إلى لبنان، وأنَّ وجوده مؤقت في لبنان بانتظار العودة.

رابعاً: إنَّ الشعب الفلسطيني وقيادته السياسية يصرون على رفض التوطين في لبنان، ومع محبتنا وتقديرنا لهذا البلد الذي نشأنا فيه إلاَّ أن قلوبنا، وعيوننا، وعقولنا مشغولة باستمرار بمقاومة الاحتلال الصهيوني، وتحرير أرضنا، وإقامة دولتنا على ترابنا. فنحن الذين قدَّمنا ما يزيد على مئة وخمسين ألف شهيد من أجل فلسطين، وما زلنا على عهد الشهداء، وما زلنا نقول ثورة حتى النصر.

خامساً: إنَّ طموحاتنا في لبنان هي أن يكون هناك إجماع على احتضان الشعب الفلسطيني، وقضيته العادلة، ومعالجة كافة الاشكاليات إنْ حصلت بروح المسؤولية الأخوية العالية.

سادساً: إنَّ المراهنة الحقيقية في إنهاء الاشكاليات مهما كانت، هي في الاعتماد على العقلاء والحكماء، وليس على التوتر، والانفعال، والخروج على المألوف، وتوزيع الاتهامات، وتسخين حالة التحريض.

سابعاً: إنَّ الأحداث والاحتجاجات التي حصلت في المخيمات كانت عبارة عن ردات فعل سريعة وعفوية مع التقدير لمشاعر الشبان الذين بادروا، وسارعوا لإحراق الاطارات، وإقفال المداخل، وشل الحركة. وهذا الموضوع كان يجب أن تتم ترتيباته من خلال الفصائل واللجان الشعبية، ومشاركة الشبان والفعاليات. لأن مثل هذه الأمور لها تداعيات وتفاعلات، وتحتاج إلى قرارات وإجراءات لضبط الأمور.

ثامناً: إن أيَّ إعتصام أو تحرُّك من هذا القبيل يحتاج إلى ضبط وربط، ويحتاج إلى وجود قيادة سياسية تتحدث بمسؤولية وحكمة، حتى تبقى الأمور ضمن السياق المطلوب. فهناك عبارات وكلمات غير مسؤولة صدرت عن أشخاص ليسوا على مستوى المسؤولية وفي حالة غضب أساءت ولا تعبِّر عن المجموع. فهناك بالنسبة لنا خطوط حمر يجب عدم تجازوها وهي:

- إنَّ إشكالية القرار المتعلق بالعمالة الأجنبية، ليست إشكالية لبنانية فلسطينية، وإنما هي قضية نقابية تحتاج إلى حوار وتوضيح.

- لا يجوز إطلاقاً الاساءة أو التشهير بأي شخصية، لأن المشكلة ليست مع شخص وإنما مع حكومة، لأن القرار النهائي بيد الحكومة .

- ليس من مصلحتنا الانجرار إلى خلافات سياسية مع أي طرف لبناني، لأننا نريد جواباً لبنانياً وليس حزبياً على الاشكالية القائمة. إن العلاقة بين المخيمات والجوار علاقة أخوية ومقدسة، والحفاظ عليها مسؤولية فلسطينية أولاً لأنها تحمي أمن المخيم.

 نحن دعونا وندعو دائماً إلى الحوار الثنائي للوصول إلى توافق يعزِّز المجتمع الفلسطيني، وقدرته على الصمود والاستمرار، فنحن تاريخياً نؤمن بالحوار خاصة مع الأهل والأصدقاء .

إننا نؤمن بأن تعزيز المجتمع الفلسطيني وأبنائه من عمال، وطلاَّب، ومعلمين، ومرأة سيعزز صمود الشعب الفلسطيني، ويشجعه على تحمُّل مسؤولياته الوطنية، ويعزز قناعاته بالبقاء عنصراً فاعلاً في الخندق الأول من خنادق الصراع ضد الاحتلال، ومُصراً على البقاء في المخيم، رافضاً الهجرة طالما هو قادر على العيش الكريم بين أهله.

إنها فرصة ثمينة في هذه الأيام أن تلتقي القيادات من الجانبين، وتخوض حواراً مسؤولاً معمَّقًا حول القضايا الخلافية، وخاصة حق العمل، وحق التملك، فأمام شعبنا الكثير من القضايا والتحديات المعقدة على صعيد القضايا المركزية .

الحاج رفعت شناعة

عضو المجلس الثوري

2019/7/18