فكرة السقوط السياسي أو الأخلاقي ليست فعلاً يوميًّا أو معتادًا كما هو الحال مع الأخطاء في التقديرات السياسية أو الخطايا البشرية في تعاملاتهم مع بعضهم البعض.
بمعنى أنَّ الإنسان يخطئ ويصيب في الاجتهاد والرأي والتقييم والتقدير، ويخطئ ويصيب في نظرته للآخر، كما أنّه قد يقع تحت طائلة مشاعر الحسد والحقد والضغينة والكراهية وقد يمارس الكذب وفعل الخداع أو الوقيعة ولكنها تبقى جميعا في نطاق (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)-سورة الشمس) حيث أن النفس الإنسانية لجميع البشر تشتمل على المكونين معا من خير وشر.
 وما جاءت الأديان التوحيدية إلا لتُعلي من شأن (الهام التقوى) في مقابل (الفجور) فيتحقّق التوازن الانساني من خلال الميزان {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:7-9] أي من خلال العقل وما يحتويه من مرجعية ثقافية حضارية.
فكرة السقوط السياسي أو الأخلاقي تضرب في البشر الحد الأقصى من منطق الفجور، حيث لا يصبح للتقوى والخير، أو بمعنى آخر للوعي والفهم والتجذر العقدي أو الصمود أي معنى، وحين يصبح السقوط مبررا فإننا ندخل في مرحلة الانحطاط الفكري أو السياسي أو الأخلاقي.
بلا شك أن لكل أمة قيمها ودينها أو دياناتها وحضارتها ومبادئها وهي بذلك تستحق لقب الأمة، لذلك فنحن لدينا أمة وحضارة ارتبطت بالإسلام، كما ارتبطت بالعرب وشعوب المنطقة خاصة الكرد والأمازيغ ومجاوريهم، وارتبطت بالمسيحية الشرقية فشكلت كل هذه المكونات نسيجا حضاريا وسطيا واحدا أصبح في مراحل عديدة (كالجسد يشدّ بعضه بعضا) او كما قال عليه السلام (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص؛ يشد بعضه بعضًا.
 أن تلتزم الأمة بمعايير تميّزها مع انفتاحها، فذلك مبرَّر صمودها وبقائها ثم استمرارها وتجدّدها. فمتى ما انبطحت وسقطت أمام حضارات الآخرين تلاشت وذوت وغابت. وفي صراع الأمم صراع حضارات أو حوار حضارات، ولكلّ عوامل قوة وحصانة وصمود وتجدد متمثلة بمكونات هذه الأمة ونحن لدينا من هذه المكونات الكثير.
بلا شك أنَّ كلنا يعلم أنّ الأمة العربية بتعريفها المحدث الذي يفترض اللسان العربي جامعًا حضاريًّا تمتد لتشمل المسلمين والمسيحيين كافة، ولتشتمل افتراض القرآن لسانًا جامعًا وثقافة شاملة، ولتعني أن التاريخ المشترك لقطار الشرق العربي ومغربة سار لأكثر من ألف عام وأكثر على قاعدة الترابط الجغرافي والديني والمصلحي الاقتصادي والمعرفي الثقافي فشكل شخصية متمايزة للأمة كحال بشرتها وتعدد لهجاتها وحتى لغاتها التي تعود جميعا لأصول جزيرية (نسبة للجزيرة العربية، والتي تسمى بشكل خرافي عند الغربيين ومن لحقهم "سامية من سام" حيث لا سام كشخصية تاريخية مطلقا سوى في خرافات التوراة) واحدة.
 هذا التميّز للشخصية الحضارية لأمة الوسط ، أمتنا، جعلها مطمع أعدائها في الشرق والغرب إلى أن هبت رياح الغرب فنهشت بالجسد وقامت بتقطيع أو صاله وأدمته ولم تخرج منه إلّا والتقيحات تملأ الجسد والأطراف.
والأشد من ذلك والأنكى أنها لم تخرج من هذا الجسد إلّا بعد أن غرست فيه سكينا يصعب إزالته بل قد يستحيل إلّا إن فهمت هذه الأمة مبرر وجودها ورسالتها ومستقبلها.
زرعت أمة الغرب الاستعماري الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية والإسلامية ليس إيمانًا بحق زائف ولا رغبة في لمسة حنان لطائفة دينية لقيت المذابح والطرد والإهانة على مدار ألف عام من المضطهِدين الأوروبيين، لا ليس لذلك أقامت العقلية الغربية الأوروبية الكيان الصهيوني في بلادنا وإنما لهدف واحد أوحد هو ألا تقوم قائمة لهذه الأمة، أمتنا.
لن تقوم قائمة لهذه الأمة إلّا باستعادة تميّزها المنفتح، وثقتها بنفسها، وقدرتها على الصمود، وأن قوتها في وحدتها وفي جماهيرها وفي المشاركة الشعبية في أرضها وخيراتها، ولن تقوم لها قائمة إلّا باستعادة وحدتها الثقافية والحضارية ولجوئها للنهل من العلم والتقانة في إطار تكاملي نحو المستقبل دون أن تهمل أبدا أحد أبرز مبررات تفتتها مرتبطة بالعقلية الاستعمارية الغربية وسليلتها المنغرسة في قلب الأمة أي الكيان الصهيوني.
لطالما خاض الإصلاحيون العرب والمثقفون ورواد النهضة حروبهم ضد عقلية السقوط السياسي أو الأخلاقي والحضاري من بعض المتغربين المفتونين من رجال الأمة بالآخر، وضد النهم الاستهلاكي سواء التجاري أو الثقافي.
في الفترة الأخيرة ظهر من الكتاب أتباع السلطان الكثير ممن دافعوا عن التوجهات الانتكاسية للامة تلك التي تنظر للارتماء في الأحضان الصهيونية غير مدركة للهدف الإسرائيلي الواضح بالهيمنة والسيطرة على كل مساحة جغرافيا الأمة من الشرق للغرب ويجد "نتنياهو" من السياسيين العرب قصيري النظر الكثير كما يجد من أشباه المثقفين قلة تنظر للصنم الصهيوني على اعتبار أنه يجب أن يعبد لعله ينقذها من الخطر الإيراني المشترك.
لا أريد أن أستعرض عددا من مقتطفات السقوط الثقافي لبعض الكتاب العرب ممن هم فرضيا درع الأمة الأخير ضد الانهيار، ولكنهم للأسف أصبحوا معبرا للسقوط القيمي والفكري، وتشرب ثقافة الاستهلاك والانخراط باللحظة، بعيدا عن رسالة الأمة الحضارية وتميزها وضرورة وحدتها التي هي فقط منعة وقوة ومدخل المستقبل.
 خاض المثقفون والمفكرون الكبار من أبناء الأمة معارك دفاعهم عن عقيدة الأمة عن الإسلام، وعن عقيدة الأمة عن المسيحية وعن اللغة الجامعة، وعن الحضارة والثقافة والتاريخ والمصالح المشتركة والجغرافيا، وفشلوا حينا وفازوا حينا رغم أن المؤسسات التي أقيمت لتثبت ذلك من جامعة الدول العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي أو دول عدم الانحياز لم تصل لدرجة الالتفاف على احتضان الخصوصية الحضارية مقترنة بالمصالح المشتركة وعقلية المشاركة الجماهيرية فتؤسس اتحادا كالاتحاد الأوروبي.
نحن أدعى ما نكون اليوم لإعادة احتضان قيمنا ومبادئنا وفكرنا الحضاري الوسطي الجامع بكل مكونات المنطقة تلك القومية والدينية بكل تعدديتها الجميلة، في مقابل عوامل التفتيت والتقسيم والهيمنة الاستعمارية الصهيونية والاستعمارية الغربية التي تجد في انهيار السياسيين وفي كسل وتسيب وتهاون مثقفي الأمة معبرا لقلب أمتنا وعقلها فتعبث به كيفما شاءت، لتصبح الرواية الإسرائيلية التوراتية الخرافية هي المتسيّدة سياسيًّا وثقافيًّا، كما حالها في كثير من المدسوسات في التراث العربي والإسلامي والمسيحي.