شكّلت "الثورات العربية" عام 2011 موجة من التحولات السياسية التي صرخت خلالها الشعوب بوجه الحكام، غضبا على التهميش واللا مساواة وقمع الحريات واستلاب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، حاولت بعض الأنظمة الوقوف بوجه شعوبها فانكسرت أو دخلت في أتون حروب أهلية طاحنة رغم أن الثورات كانت بأساسها إصلاحية بمطالب محددة لا جذرية تسعى لقلب أنظمة.
أخطاء البدايات تعلمت منها الشعوب كما الأنظمة، فكان تعامل النظام السياسي الجزائري مع الاحتجاجات الأخيرة مسؤولاً وناضجًا، كما الشارع الذي خرج منضبطًا وقدَّم شكلاً راقيًا من الحراك المتزن المطالبي الهادئ، درس أكد أنّ الشعوب حريصة على بلادها ومقدراتها دون وصاية أو فوقية من قبل صانع القرار.
ورغم أنَّ كل دولة عربية كانت تخرج بنظرية الاستثناء عن المحيط، فإنَّ الاستثناء العربي الأوضح هو الحالة الفلسطينية في قطاع غزة، انسحاب إسرائيلي أُحادي تلاه انتخابات حرة فانقلاب حمساوي فمحاولة لإنشاء دويلية ثيوقراطية ملتبسة تشكّل مرتكزًا لمشروع الإسلام السياسي في المنطقة التي شهدت صعودًا فسقوطًا مدويًّا للمشاريع الإخوانية.
وهنا أذهب لقراءة حركة "حماس" كرافعة لمشروع استنهاض الإسلام السياسي الإخواني في المنطقة، لا فرعًا تابعًا يؤمَر فيطاع، وهذا بوضوح كون "حماس" الهيكل الإخواني الوحيد الذي يمتلك مساحة عمل ونطاق سيطرة ومصادر حشد عاطفي قائمة على قضية الإجماع لدى الأمة.
مع انقلابها قبل اثني عشر عامًا، ذهبت "حماس" لمحاولة بناء نظام سياسي بديل لمنظمة التحرير يرتكز على ثلاث قواعد لاستجلاب الشرعية: صندوق الاقتراع كشرعية انتخابية ديمقراطية، والمقاومة كشرعية إنجاز، والإسلام كشرعية ايديولوجية. وعملت هذه المرتكزات الثلاثة على تغذية مشروع الدويلة الحمساوية في ظل ظروف إقليمية متقلبة، استفادت الحركة الإسلامية منها بشكل كبير بين عامي 2012 و2013، حين وصل الإخوان المسلمون لسدة الحكم في مصر، إلا أن حماس نزفت هذه الشرعية حتى آخرها في ظل عدم قدرتها على تقديم حلول للمواطن الغزي على كافة المستويات.
إلا أن للشرعيات مخزونًا يستنزف ويتلاشى ان لم يتم تجديدها وتغذيتها، فشرعية صندوق الاقتراع انكمشت مع الانقلاب وتلاشت بعد حل المجلس التشريعي وتفكيك حماس لبنى النظام السياسي في القطاع ورفضها لمصادر شرعية الصندوق بل وتخوينها لمن قبلت التنافس معهم في تلك الانتخابات، والأكثر ان الحركة وقفت عاجزة عن استثمار موقعها التشريعي لإعادة رسم السياسات العامة قانونيا وسياساتياً.
اما شرعية المقاومة فتحتاج لوقفة حقيقية ومكاشفة واضحة، فالأسئلة امام الكل الفلسطيني أصبحت ملحة ولا فرار منها حول ماهية المقاومة التي نريد؟ وهل ما حدث في القطاع خلال العقدين المنصرمين مقاومة ام دفاع شرس وقوي عن النفس بثمن بشري ومادي كبير؟ هل نجحت حماس بتشكيل قوة الردع التي دوماً ما تحدثت عنها؟ وهل يجوز الحديث عن الصمود في ظل الواقع المأساوي في القطاع؟ فالمقاومة كمبدأ تقوم على الفعل لا رد الفعل، وهذا ما لا يتوفر في الحالة الفلسطينية في غزة، بل إن المقاومة كمقومات وآليات أصبحت بوابة ابتزاز تقدم من خلالها حماس التنازل تلو الآخر، اللافت ان الحركة تستخدم المسيرات الشعبية غير المسلحة للضغط على الاحتلال من أجل تحصيل حفنة مساعدات او تسهيلات محدودة دون ان يكون للسلاح أي قيمة هنا. اذًا فالسلاح يفقد هنا قدرته على الفعل والردع ويبقى له دور استعراضي او قمعي داخلي.
أيضا، لم تقدم حماس حتى اللحظة نموذجها النقيض لمشروع منظمة التحرير بشكل واضح، ولم تخرج من دائرة المناكفة السياسية الفجة، فالمقاومة منظومة فعل اجتماعي سياسي اقتصادي شامل جامعة موحد، أي ان أي برنامج مقاومة يحتاج لسياسات تمكين وصمود وتحشيد شعبي يجعل من الحاضنة الشعبية رافعة لا عبئا ومادة للابتزاز السياسي، وهذا ما لم تقدمه حماس حتى اللحظة.
فقدت حماس عمودين من اعمدة شرعيتها الثلاثة، وبقي لها الشرعية الأيديولوجية الدينية ساقا وحيدة تقف عليها دون قدرة على الحركة او التقدم، ليأتي الحراك الجماهيري المطلبي الأخير ويكسر الساق الأخيرة حين قالت حماس بوضوح انها لا تقبل الآخر وتعتبر كل من يقول أنا مختلف عدوا يجب استخدام العنف لكسره، مستندة الى ادبياتها التي تشرعن العنف كوسيلة لتطهير المجتمع من الآخر، ما حصر هذه الشرعية المبتورة على من أدى البيعة.
إننا امام سلطوية دينية تائهة فشلت داخليا بعد ان فقدت مصادر شرعيتها الثلاثة، وسقطت خارجيا حيث نسجت علاقاتها الدولية على الأيديولوجيا لا المصلحة الوطنية، تحاول اليوم استخدام نظرية المؤامرة كما كل السلطويات المتضعضعة وتحاول حرف الأنظار عن فشلها بتصدير ازمتها او خلق أعداء.
اليوم غزة تقف امام ثلاثة سيناريوهات: مزيد من البطش الحمساوي وهذا ما سيزيد غضب الشارع ويصعد من الاحتجاج المطلبي ويحوله الى سياسي، أو محاولات تهدئة داخلية وتفاهمات إقليمية تحسن الوضع الاقتصادي المعيشي، وهذا خيار غير مستدام كونه يتعامل مع نتائج المشكلة لا سببها في ظل غياب الشرعية، اما الخيار الثالث والأسهل فهو المصالحة الحقيقية الصادقة والانضمام للخط الوطني تحت مظلة منظمة التحرير، وهذا ما يتطلب خيارات صعبة يجب على حماس اتخاذها تقوم على الانزياح بالولاء الى الهوية الوطنية الفلسطينية والاعتراف بالفسيفساء الوطنية وإعادة رسم الأولويات على أسس جامعة، فهل هي جاهزة لهكذا تحول؟
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها