مع الاعتقاد والشعور العام اليوم بضعف الولايات المتحدة النسبي بعد انسحاب قواتها من العراق وأفغانستان، فضلا عن هواجس البعض بأنها لم تعد الحليف الذي يعول عليه نتيجة كللها ومللها من القيام بدور الشرطي في المنطقة، علاوة على الاتفاق "التاريخي" بين طهران والدول الكبرى بشأن البرنامج النووي الإيراني، ها هو الدب الروسي ينفض عن نفسه غبار "الأمة المهزومة" فينهض ليحجز لنفسه مكانة مهمة في العالم.
في بداية ولايته، أعلن الرئيس الأميركي (باراك أوباما) رفضه خوض بلاده أي حرب خارجية. فهل جرى تحول في استراتيجية الدولة الأعظم بالإنكفاء الذاتي على نفسها، والابتعاد عن مواقع النزاعات والتوترات؟ أم أن الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) عازم على تغيير شيء ما في الصورة النمطية الدارجة في الشرق الأوسط بل وربما في مناطق أخرى في العالم، وهو الذي تتملكه رغبة لا يخفيها في إحياء الإمبراطورية السوفيتية؟ وتحيل مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تراجع دور الولايات المتحدة بالأساس إلى أميركا نفسها. وتؤكد أنه "لم يعد لها يد في تغير الميزان الدولي السريع الحاصل الآن. فمحاولة تحكم أميركا المباشر بتشكيل وسير الأحداث الدولية، كان له أثره في تحول العديد من الدول بعيداً عنها حتى في ظل احتياجهم لها كما حدث في العراق. وليس هناك أدعى من تورطها في حادثة التجسس على زعماء العالم لتبين مدى تدخلها في شؤون غيرها حتى حلفائها. وجاءت هذه الحادثة لتضيف دولا جديدة إلى قائمة الدول التي تتحول بعيداً عن الحليف الأميركي مثل البرازيل". وتضيف المجلة أن، ما اسمته، "تخاذل أميركا في العديد من القضايا الهامة على الساحة الدولية هو ما أفقدها ريادتها في حل الأزمات الدولية، بل أدى إلى تفاقم الأوضاع بها والسقوط في الفوضى كما حدث في سوريا، وليبيا، ومصر التي قررت السير في طريقها غير عابئة بتصريحات وإجراءات الإدارة الأميركية".
في مرحلة الثنائية القطبية، شهد العرب والعالم احتلال فلسطين وسيناء والجولان، وشهدوا أيضا خلافات عربية سالت جراءها الدماء. لذا، فإن الرغبة بوجود توازن عالمي جديد يخرج المنطقة من هيمنة وسيطرة القوة الأميركية الواحدة بات أمرا منشودا لدى جمهور متزايد. ولا شك أن هنالك الآن مؤشراً مهماً للتحولات التي قد تؤسس لواقع جديد للعلاقات الدولية والنظام العالمي المعاصر يتجسد في الكيفية التي نجحت فيها روسيا من سرقة الأضواء من الولايات المتحدة، التي كانت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية اللاعب الأهم والأكثر تأثيراً على المسرح الدولي، رغم اعتقاد الكثيرين أن روسيا لن تجرؤ على تحدي الولايات المتحدة بوصفها الضامن الرئيسي للامن في منطقة الخليج العربي، وصاحبة المكانة غير المتنازع عليها في "محادثات السلام" بين الفلسطينيين والاسرائيليين. فهل تعني هذه الحال العودة إلى الثنائية القطبية؟ أم أنه مجرد اتفاق مرحلي بين موسكو وواشنطن أم هو مجرد "إرخاء توتر" بينهما فرضته الأحداث والتطورات الدولية المتسارعة، أم تراه يتطور إلى درجة "وفاق" يتم بموجبه تقاسم مناطق نفوذ ووجود بين الدولتين مع اكتشاف عدم قدرة طرف على إدارة الأحداث الدولية وحيدا؟ أغلب الظن أن ما تسعى روسيا إليه هو أن لا يكون النظام الدولي أحادي القطبية على نحو مطلق، وأن تعترف واشنطن بها كدولة لا يمكن تجاهل دورها عالميا، بل، وربما، لا حل ممكن بدونها وكأنها تسعى إلى "تهذيب" الهيمنة الأميركية. هنا، لا بد من الحديث عن دور شخصية الرئيس الروسي (بوتين) في التغييرات الحاصلة في عالم اليوم، وكيف أمكنه سحب البساط (أو جزء منه) من تحت أقدام الرئيس الأميركي، خاصة أن نظرته للأزمات الدولية عبرت عن درجة من الحزم في صنع السياسة الخارجية ربما لم تعد تتوافر لدى الولايات المتحدة وبالتأكيد لا تتوافر للدول الاوروبية. كما أن (بوتين) هو الرئيس الذي يعمل على أن تبقى روسيا قوة نووية، قوة كبرى في جميع أوجه النشاط الدولي، وقوة مهيمنة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية في المناطق المحاذية لروسيا، الأمر الذي يعزز شعورها بالكبرياء الروسي المعهود. وهذا ما سنتناوله في مقال لاحق.