ازدحمت في الليلة الماضية، صفحات التواصل الاجتماعي، بالورود التي ترافقها الرسومات البديعة، وطيور الحمام، وملاك الحب "كيبويد" ذي الجناحين. ثمة حكاية طويلة وقديمة لـ "فالنتاين" وهو اسم قسيسين مسيحيين، أو ثلاثة، قُتلا ظلماً، في سياق سعيهما لنشر الإيمان. ولأن هناك على الدوام، من الشعراء، من يتأمل وقائع الظلم، ويستفيض في التعبير عنها، ويعْزي العناد في التشبث بالفكرة؛ الى وطنية رقيقة مع محبة غامرة، للخير وللسعادة للبشر أجمعين؛ فقد تلقف الشاعر الإنجليزي جيفري تشوسر، في العصور الوسطى، المظلمة التي أردت "فالنتاين" الأول، لكي يناجيه في أبيات، أسست لمعنى وسطي بين نوعين لا واقعييْن من الحب: الأفلاطوني والجنسي. الأول يكابر ويحلّق في فضاءات الروح والعاطفة، ويسمو على الجسد، والثاني لا يعرف روحاً ولا معنى يتساميان على بهجة الجنس. هنا يقوم الاعتبار، للحب الرومانسي المفعم بكثير من الشوق العاطفي، مع قليل من الرغبة التي يلبيها الطرفان، وفق ما استقرت عليه التقاليد والعقائد.
في الإسلام، قال المصطفى عليه السلام "لم يُر للمتحابين مثل التزُّوج". لكن هذا التزوُّج لا يتاح لكل حبيبيْن. لذا تحايل الشارحون على وقائع الحب الذي لا يتاح له نكاح، لإبعادها عن دائرة الإثم، وأخذها الى ما يماثل الرومانسية، مع كتمان الشوق الجنسي، مثلما فعل "البوصيري" عندما كتب "مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة" فأتى على الحديث النبوي، مع شواهده ومواضعه الزائدة، التي لم ترد في الصِحاح الخمسة: البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود. قدم "البوصيري" تجلياته في شرح الحديث العاطر "الأرواح جنودٌ مجندة، فما تعارض منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف".
* * *
الحب الرومانسي واقع يلازم الحياة. وعلى قدر ما أبدع الشعراء في وصفه، لم ولن يوفوه حقه ولم ولن يغطوا حيثيات حضوره الطاغي، في كل الأزمان. في أيامنا المعاصرة، ظهر الشعر الغنائي بالعامية والفصحى. عاش الشعراء الغنائيون وماتوا في صمت، دون أن يعترف لهم مؤرخو الثقافة بفضل أو وجاهة. فقد تغنى الناس بكلمات شَجَنهم، التي أسمعها مطربون ومطربات فازوا وحدهم بالإعجاب والشهرة. والناس يختلفون في مستويات مصارحتهم بالانجذاب والإعجاب، لذا ترى في مجتمعاتنا، من يطرب للأغنية ويداري، كأنه اقترف إثماً. في أيامنا التي عشناها، سمعنا بأصوات مغنين ومغنيات، ما كتبه شعراء غنائيون موهوبون، من بينهم من تدفقت قرائحهم، بشكل فطري، وكتبوا بالعامية، مثل بائع الفاكهة مرسي جميل عزيز، صاحب الألف أغنية، ومأمون الشناوي الذي كان يكتب ثم يحمل الشاب صاحب الصوت الواعد، فوق كتفيه، ليقدمه الى مؤلفي الموسيقى ومنتجي الصوتيات، أو يأخذ الشبان الموهوبين في الموسيقى، ليفتح لهم طريق الشهرة، مثلما فعل مع سيد مكاوي. فالشعراء بعاميتهم وفصحاهم، أعطوا ولم يأخذوا شيئاً. كان الشاعر الغنائي حسين السيد، صديقاً للرئيس السادات قبل أن يتبوأ موقع الرئاسة، لكن الأخير تكتم على صداقته، لأن السيّد هو الذي كتب الأغنيات الشجية في الغرام، لمحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش. ولم يشفع لحسين السيد، أنه كتب في المرحلة الناصرية اغنيات تعبوية مثل "دقت ساعة العمل الثوري" و"صوت الجماهير" وغيرهما من الأغنيات الوطنية. كانت الروح الوطنية ملازمة للحب في أشعارهم.
* * *
في الغرب، ومنذ القرن التاسع عشر، كان منتجو بطاقات 14 شباط (فبراير) يجنون الملايين مما يبيعون. وفي البطاقات مقتبسات من أشعار الحب، لا تُنسب لأصحابها. في أمريكا وحدها يبيعون مليار بطاقة سنوياً. ربما تكون شبكة العنكبوت، قد احبطت الآن، مسعاهم الى معدلات أعلى من الربح. صور الورود بكل الألون وتنوعات الباقات، والعبارات المترجمة الى كل لغات الأمم، باتت في متناول الصغار والكبار. يفيض الحب وتُرسم الأحاسيس، وتُقتبس الجمل الرشيقة الموجزة. إنها تغزو الثقافات والمجتمعات، ولا قدرة للوعظ الديني على كبحها. هناك تدرجات للتقوى حتى في الحب نفسه. وما "فالنتاين" إلا وليد أقصوصة نُسجت من حكاية الإيمان.
في إطلالتي أمس على صفحتي في "فيس بوك" صادفني وأنا في العادة ولضيق الوقت لا استعرض ما يتدفق على الصفحة؛ تنبهت الى وجود شاعر غنائي فلسطيني جميل اسمه ربحي مرقطن (إن كانت هذه هي تهجئة اسمه المكتوب بالإنجليزية). اجتذبتني كيماء السطور، فطلبت منها المزيد، فإذا به يكتب في الحب المغمس بالوطنية، ما يضاهي مأمون الشناوي ومرسي جميل عزيز وعبد الفتاح مصطفى. تذكرت مظلمة الشعراء الغنائيين الذين انطمرت أسماؤهم، تحت أسماء المطربين والمطربات، الشهيرين والشهيرات، الذين لعلعوا بأشعارهم. ولأن عندنا لكل مقام مقال، وعلى اعتبار أن مقامنا جريح وحزين، لا يملك ترف الغناء الملازم للحياة اليومية؛ فلا يجد "المرقطن" هذا، من يأخذ بيده الى موسيقيين في الجوار العربي، بالنظر الى أن لا حضور لافتاً لموسيقيين في بلادنا فلسطين. في ليلة الـ "فالنتاين" تدفقت مقطوعاته على صفحة "مرقطن". كانت ليلة سانحة لالتقاط الأنفاس، تُذكّرنا بأن الحب والوطنية يتلازمان.
الحب والوطنية في "فالنتاين"!/ عدلي صادق
15-02-2014
مشاهدة: 2244
عدلي صادق
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها