للأسف الشديد لم أقتنع بالروحية التفاؤلية التي تحدث ويتحدث بها هذه الأيام معظم الكتاب والمحللين والمراقبين حول قرب المصالحة وحول الأسباب التي باتت من وجهة نظرهم تزكي الإقدام عليها بصورة تختلف عن الصور والمحاولات السابقة.
أما مرد أسفي النابع من عدم قناعتي فيرجع لنفس الأسباب والمبررات التي سيقت لترجيح كفة المصالحة.
يعتقد أصحاب نظرية قرب المصالحة أن الأزمة التي تعاني منها حركة حماس بعد فقدان ظهيرها الإقليمي الأول والمتمثل بانهيار نظام حكم الإخوان المسلمين، مصر، وارتباك المشهد الإقليمي المساند لحركة حماس على المستوى الإقليمي، وخصوصاً إيران وسورية وحزب الله والقيود التي باتت تكبل الاندفاع القطري والتركي بالمساندة المطلقة وغير المشروطة لحركة حماس... يعتقد هؤلاء أن المصالحة باتت ممراً إجبارياً لهذه الحركة للتعويض عن الفقدان والخسارة التي تكبدتها منطقة الإقليم، كما يعتقدون بالتالي أن تعقيد المشهد الإقليمي أمام حركة حماس بات يجعلها عرضة للابتزازات والتهديدات الإسرائيلية المباشرة بدون انتظار أو توقع ردود أفعال مقيدة لهذه التهديدات، الأمر الذي يجعل حركة حماس مع استفحال أزمتها المالية، ومع تعقد الوضع الاجتماعي والاقتصادي في القطاع مضطرة للتنازل بما يكفي لعقد صفقة مصالحة ما مع السلطة الوطنية.
الحقيقة أن ما يريده هؤلاء هو صحيح تماماً من حيث كون كل الوقائع المشار إليهما هي وقائع قائمة على الأرض والمنطق يقضي بأن تعكس نفسها على سلوك حركة حماس وبالتالي التقدم باتجاه المصالحة، لكن هذه الوقائع نفسها وبنفس درجة الاحتمالية يمكن أن تؤدي إلى عكس الاتجاه وإلى ممارسة سياسية مناقضة وذلك بالنظر إلى توازن القوى الداخلي وإلى طبيعة وتركيبة التيارات المؤثرة، جسم الحركة المصالحة بالمعنى الذي تراهن عليه الحركة الوطنية الفلسطينية والمكونة أساساً لمنظمة التحرير الفلسطينية هي تلك المصالحة التي تعيد بناء النظام السياسي الفلسطيني على أسس ديمقراطية مستقرة والتي تمنع ازدواجية السلطة السياسية، وازدواجية المرجعية وازدواجية القرار وازدواجية الممارسة وهو أمر يحتم إنهاء تفرد حركة حماس بالقطاع وإعادة دمج القطاع سياسياً واجتماعياً وثقافياً وطبعاً اقتصادياً بآليات فلسطينية موحدة ويصبح الظرف الخاص بالقطاع خصوصية مناطقية ليس إلاً، وتتحول حالة الحصار التي تطبق بها إسرائيل على القطاع إلى جزء عضوي من آليات العمل الوطني. هنا تصبح المصالحة عملية سياسية واجتماعية وثقافية لها صيرورة واحدة نحو الانصهار والاندماج المتكامل.
إذا كان الأمر كذلك والأمر لا يمكن أن يكون غير ذلك إذا كنا نتحدث عن مصالحة حقيقية، فإن موافقة حركة حماس على المصالحة تعني استعدادها للانخراط الجدي في هكذا عملية.
إن المؤشرات التي تبديها حركة حماس والتي توحي بأن ثمة تغيّرا في مواقفها كلها هي مؤشرات على عدم الاستعداد لهذا النوع من المصالحة وأن المصالحة التي تراها حركة حماس هي مصالحة فوقية وشكلية وليس الاستعداد للانخراط في آلية وطنية موحدة.
المعنى الكامن وراء هذا كله هو أن حركة حماس مستعدة لتشكيل حكومة برئاسة الرئيس ومن وجوه مستقلة أو المشاركة في حكومة برئاسة الرئيس في إطار وتحالف وطني عريض يكون تمثيلاً مباشراً للفصائل والقوى، كما أنها مستعدة للاتفاق على أسس معينة لإجراء الانتخابات المحلية، وربما الرئاسية والتشريعية لاحقاً إذا ضمنت استمرار سيطرتها على القطاع وليس مجرد مشاركتها في هذه السيطرة، وإذا رجعنا إلى التصريحات وإلى "علم" قراءة ما بين السطور فإننا بكل بساطة نستنتج ما ذهبنا إليه أعلاه، بل إننا وبصورة موضوعية لا يمكن إلاّ أن نستنج ذلك وليس غيره على الإطلاق.
وإذا تحدثنا عن الأزمة المالية والاقتصادية في القطاع، فإن حركة حماس ربما تفكر بأن تلقي بهذا الهم على كاهل السلطة وتحميلها ما هو فوق طاقتها على هذا الصعيد دون حتى أن تقايض ذلك بأية تنازلات على صعيد تحكمها الأمني بالقطاع، وحركة حماس في الواقع تراهن على أن السلطة الوطنية باتت بحاجة إلى هذا النوع الشكلي من المصالحة لكي تواجه احتمالات سيرانها في العملية السياسية أو حتى احتمالات مواجهة تبعات فشل هذه العملية، وحركة حماس تراهن هنا أن هذه هي فرصتها لابتزاز السلطة الوطنية وإرغامها (على القبول) بمصالحة على هذه الشاكلة بعيداً عن المصالحة الحقيقية التي تتحدث عنها. كما أن حركة حماس أو جزءاً منها على الأقل ما زال يراهن على عودة حركة الإخوان المسلمين في مصر إلى المشهد السياسي حتى في اطار صفقة سياسية قادمة تحت ضغط الولايات المتحدة وبعض الدول الإقليمية المساندة للإخوان المسلمين.
كما يوجد داخل الحركة أجنحة عسكرية ليست على أي استعداد للتخلي عن دورها المهيمن في القطاع وهو دور أمني واقتصادي في آن معاً، وهي ما زالت تراهن على هشاشة الوضع المصري (أمنياً) وترى أن التنازل عن امتيازاتها ودورها في القطاع ربما يكون مستعجلاً أكثر (من اللازم) وأن عليها انتظار مرحلة أخرى طويلة قبل تقديم هذا التنازل.
المشكلة هنا هو أن هذا الجناح العسكري هو صاحب النفوذ الأول على ما يبدو وأن معظم التعبيرات السياسية للأجنحة الداخلية والتوازن الحقيقي في جسم الحركة إنما يتمحور حول الرؤى التي تسود في أوساط هذا الجناح.
الجناح الذي يقدم معسول الكلام حول المصالحة لا يملك القرار الفعلي على الأرض والجناح الخارجي أصبح بحكم المتلاشي، والجناح العسكري هو صاحب اليد الطولى في القطاع وكلها مع الأسف الشديد عوامل لا تزكي على الإطلاق قرب الإقدام على مصالحة حقيقية.
إن الذي سنشهده في المرحلة القادمة هو نوع من المصالحة الصغيرة الجانبية والتي توحي بأننا أمام مفترق طرق جديد، وأمام مرحلة جديدة، لكن دون أن يكون ذلك آليات تمهيدية للدخول إلى جوهر المصالحة وإنما للالتفاف على هذا الدخول مقابل ما هو قائم في حركة حماس فإن الأوضاع الداخلية في حركة فتح لا يمكن في هذه المرحلة أن تسرع من عملية تصالحية جذرية وحقيقية. من الواضح أن مشكلة (دحلان) تشكل في الواقع عقبة في طريق إقدام الحركة (حركة فتح) بصورة كاملة على هذه المصالحة.
صحيح أن حركة فتح في نهاية المطاف مستعدة بأن ترمي بثقلها في موضوع المصالحة وهذه الرغبة هي رغبة حقيقية، إلاّ أن عوائق هذه المسألة موجودة في الواقع، لهذا كله فإن حركة فتح وفي هذه المرحلة ستكون مستعدة على ما يبدو للانخراط في هذه المصالحات الصغيرة أملاً بأن تشكل مرحلة تمهيدية للمصالحة الحقيقية، إلاّ أن الواقع لا يُزكي ذلك.