بقلم: د. صبري صيدم

تشرفت قبل أيام بصحبة البعض من المختصين بالمشاركة في زيارة نوعية لوادي السيلكون في الولايات المتحدة الاميركية والمتربع على عرش التقانة الحديثة في عالم الاتصالات والمعلوماتية والتصنيع الإلكتروني المتقدم والذي يجمع بين شركاته على تنوعها طاقة هائلة في مختلف النطاقات.

 

هذا الوادي الذي يحتل مساحة جغرافية مهمة من ولاية كاليفورنيا ليس مجرد مبانٍ وموظفين وإنما مجتمع قائم على الكفاءة البشرية المهاجرة في معظمها والتي تقاطعت أولوياتها ووفرت لها التسهيلات اللازمة التي جعلت من ذلك الوادي القوة الأهم تأثيراً في عالم التكنولوجيا الحديثة.

 

هذا الوادي ومجتمعه لم يأتِ من باب الارتجال وضخ المال العشوائي بل جاء نتاجاً واضحاً لقدرات البشر على تطوير البيئة الإبداعية ووجود البيئة السياسية والاقتصادية والقانونية الحاضنة والمحفزة للإبداع.

 

وبهذا استحوذ هذا الوادي على عقود من الزمن راكمها بالعمل الجاد والجهد الكبير واستقطاب الأدمغة والعقول اللامعة من أرجاء العالم. وبذلك نجح أن يخط لنفسه مسيرة مرموقة انتجت ما نراه اليوم من ابتكارات مختلفة تفوق حجم أحلامنا التي سكنتنا ذات يوم.

 

لكن هذا العالم لم يكن ليصمد لولا القدرة الآدمية على الإبداع وتوفر الإمكانيات المادية المختلفة وصناديق التأسيس والأقراص اللازمة.

 

لذا فإن التميز يأتي من الابتكارات والقدرة الكبيرة على المنافسة في عالمٍ يبحث في كل لحظة عن اختراع ما يسجله في تاريخه ويسمح له بالإبقاء على التقدم والسبق في عالم الاختراعات والمال.

 

فمن تطوير تقنيات الحاسوب على اختلافها إلى الهواتف الذكية وتطبيقاتها إلى البرمجيات المختلفة ومحركات البحث ووصولاً إلى تكنولوجية الرجل الآلي على تنوعها فإن هذا الوادي يجمع بين جنباته أكثر من 80 ٪ من المكانة المالية للقطاعات المذكورة عالمياً وبطاقة بحثية وتطويرية تصل اليوم إلى ما يعادل 3 تريليون دولار.

 

وتشير الأرقام إلى ان الحجم المالي لتقنيات الإنترنت وملحقاتها التقنية سيصل مع نهاية العقد الحالي إلى 14 تريليون دولار عالمياً يساهم الوادي في تطوير معظمها بينما يساهم العالم العربي فيما يعادل ثلث ذلك الرقم من حيث الاستخدام.

 

الأهم أن الوادي يجمع العديد من الثقافات والأعراق المهاجرة التي ساهمت في تعزيز قدرته على التنافس بما فيها المساهمات العربية للعقول. لكن ما سجل من نقل لهذه العقول للخبرة التقنية إلى بلدانها يكاد لا يذكر وهذا تقصير واضح يجب تداركه سيما وأن تقارير التنمية ما زالت تغلّب مفهوم الاستهلاك على مفهوم الإنتاج في العالم العربي كما أن الاستفادة العربية المباشرة في مجالات الأبحاث والتطوير ما زالت محدودة في صناعة وتطوير التقانات المتاحة في الوادي ربما نتيجة انعكاس الاضطرابات السياسية على المشهد العربي برمته، إذ تقتصر المساهمات العربية على عدة تقانات تطويرية كالمساهمة في تطوير تطبيقات الهواتف الذكية وبعض خصائص البرمجيات التشغيلية وأنظمة التحكم الإلكترونية وغيرها القليل.

 

الأهم أن العالم العربي لا يساهم في نقل المعرفة التقنية إلى أراضيه بالصورة المطلوبة رغم المال الوفير لدى بعض دوله ما ينعكس على حجم الأوراق البحثية المنشورة سنوياً خاصة تلك التي تصدر من خلال المؤسسات الأكاديمية العربية وبعض مختبرات البحث والتطوير.

 

البقاء اليوم للعالم المبدع القادر على تحقيق التزاوج الرشيق بين الحاجة العلمية والخبرة التقنية والبحث والتطوير والدعم الأكاديمي والمال الرافد والمجزي والاستقرار السياسي والبيئة القانونية الداعمة، وهذا ما يميز وادي السيلكون الشهير رغم المنافسات القوية في دول آسيا كالهند والصين وغيرها.

 

لهذا فإن غياب العالم العربي بالمقارنة مع غيره من الاعراق المشاركة في مسيرة التطوير والهوة المرتبطة بذلك لن تردم إلا من خلال تعديل المسار بتحفيز الإبداع أولاً وبخطواتٍ عملية واضحة وكبيرة للترابط مع المهجر وتوفير الإمكانات المالية والغطاء القانوني التحفيزي اللازم والسياسات الحكومية الداعمة. دون هذا كله سنبقى على ما نحن فيه في عالمنا العربي.

 

البقاء لم يعد للأقوى عسكرياً وإنما لمن يمتلك الغلبة في القدرات العلمية والبحثية وإنتاج المعرفة بحيث إن الغائب عن هذا الحيز من الإنتاج لن يكون حاضراً جغرافياً وسياسياً ومالياً وفكرياً في عالمٍ تقوده النجاحات التي سيحققها الوادي وشركاته وما ستحققه صناعات التقانة.. فإما العقل وإما الفقر وما بينهما من رخاءٍ معرفي أو ضنك اقتصادي استبد بحياتنا لعقودٍ طالت!