بقلم: الدكتور ناجي صادق شراب- استاذ علوم سياسية- غزة

لقد أعادت الأحداث الأخيرة التي شهدتها مدينة القدس، التناقض والتباعد في المسافات السياسية بين الموقفين الفلسطيني والاسرائيلي. إسرائيل من ناحيتها هدفت من وراء سياساتها وإجراءاتها بتركيب البوابات الألكترونية على أبواب المسجد الأقصى التأكيد على سيادتها الكاملة على المدينة، وإنهاء كل أشكال الوصاية والرعاية الأردنية، وإستبعاد أي دور فلسطيني، وتحويل القدس إلى مجرد مكان عبادة للصلاة تتحكم فيه، والفلسطينيون من ناحيتهم وبصمودهم، داخل القدس وداخل كل المدن الفلسطينية، وما قدموه من شهداء، أرادوا أن يرسلوا رسالة قوية بأنهم لا يعترفون بكل الإجراءات الاسرائيلية، ويرفضون أن تكون القدس عاصمة موحدة وغير قابلة للتقسيم إسرائيلياً، ويطالبون ويصرون على ان القدس الشرقية هي عاصمة فلسطين.

القدس تعكس المواقف البنيوية المتناقضة وغير القابلة للإلتقاء بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وتجسد عمق الرواية الدينية والتاريخية لكل منهما. وبسبب هاتين الروايتين، والموقفين كانت القدس وما زالت القضية الشائكة التي أفشلت مسيرة التفاوض على مدار أكثر من عشرين سنة. ورأينا كيف أن القدس كانت الشرارة الأولى التي أدت لإندلاع الإنتفاضة الثانية عام ٢٠٠٠ عندما دخلها شارون.

واليوم تشكل الشرارة الأولى أيضاً لإندلاع مواجهة عسكرية ستتجاوز الحدود الجغرافية للمدينة. وهذه المرة تختلف الحالة السياسية العربية والدولية، فالقدس وبما تمثله من مكوّن ديني وإيماني للمسلمين، وما تمثله من رمزية وطنية للهوية الوطنية الفلسطينية كفيلة أن تعرض ما تبقى من أمن وإستقرار للمنطقة للتهديد. وبلا شك ستكون اسرائيل في قلب أي مواجهات.

فمنذ أن إحتلت اسرائيل كل الأراضي الفلسطينية بما فيها القدس وهي تسابق الزمن لإخراج القدس من سياقها التاريخي والحضاري والديني والسياسي لتشرع في سياسات تهويد ومصادرة أراضيها، وجلب الآلاف من اليهود والمستوطنين ليسكنوا فيها، فعند إحتلالها لم يكن هناك يهودي واحد في القدس الشرقية، ولم تكن هناك أي مستوطنة، أما اليوم فتسعى إسرائيل ليس لتحقيق معادلة العنصر البشري في القدس الشرقية، بل بتفريغها من سكانها الفلسطينيين، وفصلها عن قلبها الفلسطيني بتوسيع حدودها، وببناء الكتل الإستيطانية التي تفصل القدس عن بقية الأراضي الفلسطينية. ورغم ما تقوم به اسرائيل من سياسات وسن قوانين بإعتبارها العاصمة الموحدة والأبدية غير القابلة للتقسيم، فإن القدس تخضع لقوانين الإحتلال، واحكام إتفاقات لاهاي لعام ١٨٩٩/و ١٩٠٧، وأحكام إتفاقيات جنيف الرابعة وهي أحكام لا تسقط بالتقادم، فمهما عملت إسرائيل من تغيير هوية القدس، لكنها تبقى سلطة إحتلال، هذا إلى جانب العديد من القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن، وكل فروع الأمم المتحدة، والتي تؤكد على بطلان كل الإجراءات الإسرائيلية، وهو ما يعني قوة الشرعية الدولية التي يتسلح بها الجانب الفلسطيني.

وهذه الشرعية الدولية باقية ببقاء الأمم المتحدة، وإن كانت تنقصها القوة. ومن أبرز قرارات مجلس الأمن رقم ٢٤٢ والذي نص على عدم جواز ضم أراضي الغير بالقوة، والقرار رقم ٣٣٨، وهناك العديد من القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن نذكر منها القرار ٢٥٢، والقرار ٢٦٧، والقرار ٤٥٣ و ٤٦٥ و٤٧٨ و ٤٧٦ والقرار ١٠٧٣، وكلها تؤكد عدم شرعية الإحتلال، وبطلان كل سياسات الاحتلال الاسرائيلي.

وفي الوقت ذاته يمارس الأردن دور الدولة الراعية والوصية على الأماكن المقدسة في المدينة، وتربطها تفاهمات مع إسرائيل في ذلك. هذا وتؤكد إتفاقات لاهاي لعام ١٩٠٧ في المادة ٢٢ على عدم القيام بأي أعمال عدوانية تمس الوضع التاريخي والآثار فيها. وتلزم أحكام إتفاقات لاهاي لعام ١٩٥٤ الاحتلال بحماية الممتلكات الثقافية ومباني العبادة، ورغم كل هذه القرارات والإتفاقات تضرب إسرائيل بكل الشرعية الدولية عرض الحائط، وتواصل سياساتها التهويدية الإستيطانية.

وفي مواجهة هذه السياسات لا يملك الفلسطينيون إلا التصدي لهذه الإجراءات، وهنا لابد من تسجيل حقيقة تاريخية أن إستمرار المقاومة لهذه السياسات يسقط عنها أي إعتراف تاريخي.

واليوم مع وصول إدارة الرئيس ترامب وتجدد الحديث عن تسوية تاريخية، تقف القدس بقوة امام اي جهود لا تأخذ في الإعتبار المكانة التاريخية والدينية للمدنية. ولقد فشلت المفاوضات على مدار عشرين سنة بسبب موقف إسرائيل، ومصادرتها للحقوق الفلسطينية في القدس.

وهنا أذكر بموقف الرئيس الراحل ياسر عرفات عندما قال في مباحثات كامب ديفيد في عهد الرئيس كلينتون، ورفضه لكل المقترحات التي تمس هذه الحقوق، «إذا قبلت وتنازلت سينصب أبناء شعبي لي المشانق على باب العامود».

اليوم القدس هي التحدي الأكبر الذي يواجه إدارة ترامب، التي وعدت اولا بنقل سفارتها من تل أبيب اليها، وبتأييد موقف إسرائيل بأن القدس موحدة ولا تقبل التقسيم. وإذا اصرت على موقفها وسياستها هذه لن يوجد مفاوض فلسطيني يقبل بتسوية دون القدس.

وتطرح مبادرات اليوم للخروج من عنق الزجاجة ، ببقاء القدس موحدة ، وعاصمة مشتركة لإسرائيل وفلسطين، وان تقيم الولايات المتحدة سفارة لها في القدس الغربية ، وأخرى في القدس الشرقية للدولة الفلسطينية ، ويتم تعويض الأحياء اليهودية في القدس الشرقية بنسب متماثلة من الأرض، وهذه المقترحات وغيرها ستصطدم بالتمسك اليميني لحكومة إسرائيل بالقدس، وإختزالها على أنها مجرد مسجد يؤدي المسلمون فيه الصلاة. القدس تحتاج إلى موقف عربي ودولي قوي وضاغط على إسرائيل، لتدرك ان القدس هي الطريق للسلام والأمن والتعايش المشترك. وإذا ما تم التوصل لحل هذا الملف قد يسهل النفاذ لبقية الملفات الأخرى .

فهل تملك إدارة ترامب الإرادة والقوة لتحقيق العدالة في القدس؟