لا يترك الإسرائيليون مناسبة أو منبرا إعلامياً محلياً أو دولياً إلا ويكيلوا الاتهامات للفلسطينيين بأنهم إرهابيون ولا يريدون السلام ويهدفون للقضاء على دولة إسرائيل. لم يتوقف الأمر عند اتهام بعض الجماعات الفلسطينية بل طالت الاتهامات الرئيس أبو مازن ومنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، بالرغم من التزام هذه الأطراف بالاتفاقات الموقعة بما فيها الاعتراف بإسرائيل وبقرارات الشرعية الدولية والالتزام بالتنسيق الأمني.

استهداف الرئيس أبو مازن وتحميله مسؤولية العنف والتحريض من خلال تأويلات وتفسيرات لتصريح هنا أو هناك أو لمجرد حديثه عن حق الفلسطينيين في دولة مستقلة أو إدانته للممارسات الاستيطانية الخ، لا ينبني على قناعة من مراكز القرار في تل أبيب بأن الرئيس أبو مازن يدعم الإرهاب بل محاولة لابتزازه ودفعه والسلطة الفلسطينية لتقديم تنازلات واتخاذ مزيد من الإجراءات وخصوصا التنسيق الأمني، أيضا الخوف من سياسته المُصرة على الحل السلمي وقرارات الشرعية الدولية، حيث تجد إسرائيل في استراتيجية السلام خطرا عليها وإحراجا لها على المستوى الدولي أكثر من خطاب التحريض والعنف.

الفلسطينيون تغيروا وتجاوزوا توصيفهم الأول للصراع بأنه حرب مفتوحة حتى تزول دولة إسرائيل ويتم طرد اليهود من فلسطين، هذا التغير حدث بعد أقل من خمس سنوات من انطلاق ثورتهم، وتقدموا بحلول إنسانية وواقعية عندما تبنى ورفع المجلس الوطني الفلسطيني رسميا عام 1971 شعار الدولة الفلسطينية الديمقراطية التي يتعايش فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون ، ورفضت إسرائيل آنذاك هذا الحل.

بعد ذاك التاريخ استمر الفلسطينيون يعبرون عن رغبتهم بالسلام والتعايش مع الإسرائيليين حيث كانت قرارات المجلس الوطني الفلسطيني  في الجزائر 1988 واضحة في اعتمادها قرارات الشرعية الدولية التي تعترف بإسرائيل، وأكدوا التزامهم بالسلام عندما وقع الرئيس أبو عمار بصفته رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني مع إسرائيل اتفاقية الاعتراف المتبادل حيث اعترفت منظمة التحرير بحق إسرائيل بالوجود، وتجسد هذا الاعتراف عمليا بتوقيعهم لاتفاقية أوسلو والتي تهربت إسرائيل من الالتزام بها بالرغم من التزام السلطة بكل بنودها واستمرار اعترافها بدولة إسرائيل.

لم يتغير الفلسطينيون فقط بل تغير العرب أيضا وعبروا عن حسن نواياهم بالسلام كان ذلك عندما وقعت مصر وإسرائيل اتفاقية كامب ديفيد 1979 والأردن اتفاقية وادي عربة 1994، ثم خطو خطوة أشمل عندما أبدوا استعدادهم للاعتراف الجماعي بدولة إسرائيل في حالة انسحاب اسرائيل من الاراضي المحتلة عام 1967 وسمحت بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967، وهو ما تضمنته مبادرة السلام العربية 2002، والتي رفضتها إسرائيل أيضا.

المفارقة أنه كلما تغير الفلسطينيون وتوجهوا نحو الاعتدال فإن إسرائيل ما زالت متمسكة بمشروعها الصهيوني الأول كما صاغه قادة الحركة الصهيونية الأوائل، وبدلا من التجاوب مع خطاب السلام الفلسطيني والعربي تزداد تطرفا فتسارع في عمليات الاستيطان والتهويد وتضع مزيد من العقبات أمام السلام كطلبها من الفلسطينيين أن يعترفوا بيهودية الدولة وهو شرط لم يكن موجودا عند بدء عملية التسوية السياسية في مدريد وأسلو، بل وصل الصلف والوقاحة عند الإسرائيليين أن حاولوا إغلاق المسجد الأقصى ومنع أهالي القدس من الصلاة فيه، وهذا يحدث لأول مرة في التاريخ.

وعليه ليست المشكلة عند الفلسطينيين بل عند الكيان الصهيوني الذي مع كل يوم يمر يؤكد عنصريته وعدوانيته ليس فقط على مستوى الحكومات اليمينية المتعاقبة – وكل الحكومات الإسرائيلية حكومات يمينية – بل على مستوى المجتمع الإسرائيلي الذي يزداد تطرفا وعنفا ليس فقط في مواجهة فلسطينيي الضفة وغزة بل أيضا في مواجهة فلسطينيي 48.

أصبح العالم أكثر إدراكا اليوم بأن الفلسطينيين من أكثر الشعوب في العالم نشدانا للسلام وقد تجاوزا مواثيقهم الأولى التي كانت تتحدث عن تحرير كامل فلسطين وإنهاء وجود دولة إسرائيل، حتى حركة حماس تغيرت بعد وثيقتها الأخيرة (ميثاقها الجديد )، وفي المقابل فإن إسرائيل وممارساتها الاستيطانية تشكل العقبة أمام السلام، وهذا ما دفع غالبية دول العالم للاعتراف بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة وهذا ما يفسر تزايد حالات المقاطعة والانتقاد لإسرائيل.

وحيث أن هذا المسار المتعاكس، الفلسطينيون ينحون نحو الاعتدال والإسرائيليون نحو التطرف، لا يمكن أن يؤدي لنقطة التقاء فإنه لن يستمر إلى ما لا نهاية. لا يمكن أن يستمر الفلسطينيون في مديد السلام والالتزام بنهج السلام في مقابل استمرار إسرائيل في الاستيطان والتهويد والعدوان والتنكر للاتفاقيات الموقعة وقرارات الشرعية الدولية، هذا الوضع لا يمكن أن يصبر عليه الفلسطينيون إلى ما لا نهاية وستأتي لحظة قلب الطاولة.

إن كان خطاب الاعتدال والسلام الفلسطيني والعربي سيؤدي لضياع الحقوق الشرعية الفلسطينية فليس ببعيد اليوم الذي سينقلب فيه الفلسطينيون ليصححوا المسار ويتعاملوا مع إسرائيل بنفس منطقها ونهجها، وآنذاك لن يلوم أحد الفلسطينيين وستتهاوى كل الكوابح والتبريرات التي تقول باختلال موازين القوى لصالح إسرائيل أو الخوف مما هو أسوء فموازين القوى ليست قدرا ثابتا، وما هو أسوء ليس نتائج ثورة الشعب على الاحتلال بل استمرار الاحتلال دون أية مقاومة.